الصفحة الرئيسية » قصص من روائع حضارتنا »
ابتكار المسلمين علم الكيمياء
موقع قصة الإسلام ـ ورود الحق
د. راغب السرجاني
جاء ظهور الإسلام رحمةً بالإنسانيَّة، ذلك الدين الذي دفع أتباعه إلى السبق والريادة؛ ما جعل الأمم المنصفة تشهد بفضلهم وسبقهم وتطوُّرهم الحضاري، التطوُّر الكامل المشتمل على جميع نواحي الحياة، وقد حضَّ القرآن الكريم المسلمين على التفكر والتدبُّر، وعدم التقيُّد بما جاء به الأوَّلون إلاَّ إذا ظهر فيه الخير بعد التفكير والتمحيص؛ فقال تعالى في معرض ذمِّه للكفَّار الذين يكتفون بالتقليد دون تفكير: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
وإن هذا المنهج -الذي يحثُّ على إعادة النظر في كل الأمور وَفْق المنطق السليم، والتفكير المؤيَّد بأدلَّة- هو الذي دفع رسول الله مثلاً إلى قَبُول فكرة حفر الخندق في موقعة الأَحْزَاب، مع كونها جديدة تمامًا على المجتمع العربي، ومن ثَمَّ فلم يتقيَّد رسول الله بالقوالب العسكريَّة الجامدة التي ألِفَها العرب لعدَّة قرون.
وقد ورث العلماء المسلمون هذا المنهج، ومِن ثَمَّ لم يتقيَّدوا بالأُطُر العلميَّة السابقة، والتي كُوِّنت في الحضارات التي سبقت الإسلام، وهذا أدَّى إلى فكر إبداعي لم يكتفِ بإضافة ابتكارات في مجالات العلوم المختلفة، بل وصل إلى ابتكار علوم جديدة من الأساس، ومن ذلك علم الكيمياء.
ابتكار جابر بن حيان لعلم الكيمياء
لم تكن الكيمياء قبل الحضارة الإسلامية سوى محاولات فاشلة لتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب وفضة، معتمِدة في ذلك على العقل والاستدلال المنطقي، ومُنَحِّية المنهج العلمي القائم على التجربة والملاحظة جانبًا.
وظلَّت الكيمياء على ذلك حتى ظهر علماء المسلمين الذين أَسَّسوا للمنهج العلمي الدقيق، واستندوا إلى التجرِبة العلميَّة وإشراك الحس والعقل معًا في الوصول إلى الحقائق العلميَّة في هذا الحقل من العلوم بالذات، فكان أن نشأ وابتكر علم الكيمياء بقواعده وأصوله، وكان جابر بن حيان أول عالم يؤسِّس ويبتكر هذا العلم الكبير، حتى بات يُعرَف هذا العلم في أوربا ولعدَّة قرون (بصنعة جابر).
فجابر بن حيان هو الذي جعل التجرِبة أساس العمل، ولذلك يُعَدُّ أوَّل مَنْ أدخل التجرِبة العلميَّة المخبريَّة في منهج البحث العلمي الذي أرسى قواعده؛ وتراه في ذلك يدعو إلى الاهتمام بالتجرِبة ودقَّة الملاحظة، تلك التي يقوم عليها المنهج التجريبي، فيقول: "ومِلاكُ كمال هذه الصنعة العملُ والتجرِبة؛ فمَن لم يعمل ولم يُجَرِّب لم يظفر بشيء أبدًا"[1].
يقول ديورانت: "يكاد المسلمون يكونون هم الذين ابتدعوا الكيمياء بوصفها علمًا من العلوم؛ ذلك أن المسلمين أدخلوا الملاحظة الدقيقة، والتجارب العلمية، والعناية برصد نتائجها في الميدان الذي اقتصر فيه اليونان -على ما نعلم- على الخبرة الصناعية والفروض الغامضة؛ فقد اخترعوا الإنبيق وسمَّوه بهذا الاسم، وحللوا عددًا لا يُحصى من المواد تحليلاً كيميائيًّا، ووضعوا مؤلفات في الحجارة، وميزوا بين القلويات والأحماض، وفحصوا عن المواد التي تميل إليها، ودرسوا مئات من العقاقير الطبية، وركّبوا مئات منها. وكان علم تحوُّل المعادن إلى ذهب، الذي أخذه المسلمون من مصر هو الذي أوصلهم إلى علم الكيمياء الحق، عن طريق مئات الكشوف التي يبينوها مصادفة، وبفضل الطريقة التي جروا عليها في اشتغالهم بهذا العلم، وهي أكثر طرق العصور الوسطى انطباقًا على الوسائل العلميَّة الصحيحة"[2].
جهود علماء المسلمين في الكيمياء
خالد بن يزيد
بَدْء ظهور علم الكيمياء يمثله ظهور خالد بن يزيد الذي تتلمذ للراهب الرومي مريانوس وتعلَّم منه صنعة الطبِّ والكيمياء، والذي انتقلت معه الكيمياء من طور البدايات المترجمة عن اليونانيَّة إلى طور الإنجازات العينيَّة والاكتشافات الواضحة، وقد كان له فيها ثلاث رسائل؛ هي: (السر البديع في فك الرمز المنيع)، و(فردوس الحكمة في علم الكيمياء)، و(مقالتا مريانوس الراهب)، ذكر فيه ما كان بينه وبين مريانوس، وكيف تعلَّم منه الرموز التي أشار إليها[3].
جابر بن حيان
يعد جابر مؤسِّس العلم بلا جدال وأشهر علماء المسلمين فيه، وقد ألف كتبًا كثيرة تُرجم الكثير منها إلى اللاتينيَّة، وظلَّت المرجع الأوفى للكيمياء زُهاء ألف عام، وقد اشتملت على كثير من المركَّبات الكيميائية التي لم تكن معروفة من قبل، وهو الأمر الذي جعل مؤلَّفاته موضع دراسة مشاهير علماء الغرب، أمثال: كوب، وبرثولية، وكراوس، وهولميارد الذي أنصفه ووضعه في القمَّة، وبدَّد الشكوك التي أثارها حوله العلماء المغرضون، وكذا سارتون الذي أرَّخ به لحِقبة من الزمن في تاريخ الحضارة الإسلاميَّة.
الرازي
أما الرازي (ت 311هـ/ 923م) فقد تتلمذ على كتب جابر فساهم هو الآخر بصورة عظيمة في تأسيس علم الكيمياء، وقد دوَّن ذلك في مقدِّمة كتابه (سر الأسرار) فقال: "وشرحنا في هذا الكتاب ما سطرته القدماء من الفلاسفة مثل: أغاثا ديموس، وهرمس، وأرسطوطاليس، وخالد بن يزيد بن معاوية، وأستاذنا جابر بن حيان، بل وفيه أبواب لم يُرَ مثلها، وكتابي هذا مشتمل على معرفة معادن ثلاثة: معرفة العقاقير، ومعرفة الآلات، ومعرفة التدابير (التجارِب)"[4].
اختراعات المسلمين في الكيمياء
وبصفة عامَّة فقد كشف علماء المسلمين أهمَّ أُسُس الكيمياء وأسرارها، وكان من أهمِّ اختراعاتهم فيها ماء الفضة (حامض النيتريك)، وزيت الزاج (حامض الكبريتيك)، وماء الذهب (حامض النيترو هيدرو كلوريك)، وحجر جهنم (نترات الفضة)، والسليماني (كلوريد الزئبق)، والراسب الأحمر (أكسيد الزئبق)، وملح البارود (كربونات البوتاسيوم)، وكربونات الصوديوم، والزاج الأخضر (كبريتيد الحديد)، واكتشفوا: الكحول، والبوتاس، وروح النشادر، والزرنيخ، والإثمد، والقلويات التي دخلت إلى اللغات الأوربية باسمها العربي Alkaki[5].
وهم الذين استخدموا ذلك العلم في المعالجات الطبيَّة وصُنْعِ العقاقير، فكانوا أوَّل من نشر تركيب الأدوية والمستحضرات المعدنيَّة وتنقية المعادن، وغير ذلك من المركَّبات والمكتشفات التي تقوم عليها كثير من الصناعات الحديثة؛ مثل: الصابون، والورق، والحرير، والأصباغ، والمفرقعات، ودبغ الجلود، واستخراج الروائح العطريَّة، وصنع الفولاذ، وصقل المعادن، وغيرها. وقد اعتمدوا في تجاربهم على عِدَّة آلات ووسائل كيميائية، مثل: الإنبيق، والميزان الذي كان مهمًّا للغاية؛ حتى يحدِّدوا النِّسَبَ بين الموادِّ والعَلاقات الوزنيَّة[6].
د. راغب السرجاني
[1] جابر بن حيان: كتاب التجريد، ضمن مجموعة حقَّقها ونشرها هولميارد بعنوان: مصنفات في علم الكيمياء للحكيم جابر ابن حيان، باريس 1928م.
[2] قصة الحضارة 13/187.
[3] انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/224، ومحمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص16.
[4] نقلاً عن علي بن عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم ص277.
[5] انظر: دونالد ر. هيل: العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية، ترجمة أحمد فؤاد باشا ص120-126.
[6] انظر: محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص159.
كتبت تحت قسم
قصص من روائع حضارتنا
مواضيع متشابهة:
إذا أعجبتك مدونتى قم بنشرها واشترك بها ليصلك كل جديدها.
الأكثر مشاهدة
المشاركات الشائعة
-
أولا: مفهوم الثبات والمرونة : تنقسم أحكام الشريعة الإسلامية على قسمين : ا لأول : أحكام ثابتة : وهذه لا سبيل إلى البحث فيها ، ولا تقبل الت...
-
موقع إخوان أون لاين ـ مدونة ورود الحق إذا كنا نحتفل بيوم الهجرة فيجب أن نكون جديرين بالاحتفال بهذا اليوم، يجب ألا يكون احتفالنا بالهجرة ...
-
موقع الإخوان المسلميبن ـ ورود الحق بقلم: د. عماد عجوة القيروان.. مدينة تونسية تقع على بُعد 156 كم من العاصمة تونس، وعلى بُعد 57 كم من مدين...
-
مدونة ورود الحق ـ قصة الإسلام ثامر سباعنه السودان دولة عضو في جامعة الدول العربية وفي الاتحاد الإفريقي، وهي أكبر الدول من حيث المساحة في إ...
-
مدونة ورود الحق ـ ويكبيديا أصولهم ونشأتهم ينحدر العثمانيون من قبائل الغز (أوغوز) التركمانية، مع موجة الغارات المغولية تحولوا عن مواطنهم في...
-
مدونة ورود الحق ـ الإسلام اليوم هانئ رسلان تعيشُ الخُرطوم هذه الأيام أجواءًا من الترقُّب المشوب بالقلق؛ بسبب...
-
مدونة ورود الحق ـ ويكبيديا الدولة العثمانية فى عهد مراد الأول ------------------------- السلطان مراد الأول بن السلطان أورخان وأمه الأميرة ا...
-
مراد الرابع --------------- مراد الرابع هو أحد السلاطيين العثمانيين، عاش بين عامي 1612 و1640 حكم 17 عاما منذ عام 1623 وكان عمره آنذاك 11 عام...
-
د. راغب السرجاني العلم حتى النصف الأول من القرن الثاني الهجري بلغت مكانة العلوم الحياتية والتطبيقية في ظلِّ الإسلام مبلغًا عظيمًا، ح...
-
موقع قصة الإسلام ـ مدونة ورود الحق د. راغب السرجاني شأن كل العلوم التي تتقدَّم وتتطوَّر مع تعاقب الأمم والحضارات، قامت العلوم الطبيعيّ...
يتم التشغيل بواسطة Blogger.
أرشيف المدونة الإلكترونية
-
▼
2010
(156)
-
▼
أغسطس
(36)
- قالوا عن الإسلام : المستشرق الإنجليزي البارز السي...
- المسور بن مخرمة
- أهمية العلم وقيمته في الإسلام
- إلى ابن الدعوة...
- ابتكار المسلمين علم الكيمياء
- العالم الإسلامي وعلاقته بمشكلة كشمير
- أعلام المقاومة الكشميرية
- القضية الكشميرية ومراحل تطورها
- جامع القيروان.. أقدم مساجد المغرب العربي
- ابتكار المسلمين علم الجيولوجيا
- إسهامات علماء المسلمين في الطب
- الاقتصاد في الحضارة الإسلامية
- إسهامات علماء المسلمين في تطوير علم التاريخ
- قصة العلوم في الإسلام
- ابتكار المسلمين علم الصيدلة
- القرضاوي: الجهاد في الإسلام فريضة أخلاقية
- نبذة تاريخية عن كشمير
- فتح مكة.. لحظة فارقة في التاريخ
- 14 رمضان : ذكرى وفاة مظفر الدين كوكبوري
- مشكلة كشمير بالتفصيل
- أهم المعالم والمناطق
- مقدمة الجرح الكشميري
- الفلسطينيون ومؤامرة الوطن البديل
- جغرافية فلسطين
- فلسطين إطلالة تاريخية
- المسلمون في تركستان الشرقية.. حتى لا ننسى
- العالم الإسلامي وعلاقته بمشكلة تركستان
- الصين وتركستان الشرقية
- الحركات الإسلامية والوضع الحالي في تركستان
- الموارد الاقتصادية والاستراتيجية في تركستان
- التركيبة العرقية في تركستان
- نبذة تاريخية عن تركستان
- الموقع الجغرافي لتركستان
- بالصور السيد رئيس وزراء الحكومة المقالة بغزة يزور ...
- مجندة إسرائيلية تنشر صورا لها مع أسرى مسلمين مكتفي...
- حذر الأئمة من التحدث بالسياسة خلال دروس رمضان.. زق...
-
▼
أغسطس
(36)
أحدث موضوع
المدونة على الفيس بوك
أقسام مهمة
التسميات
- أزمات الأمة (38)
- الخلافة الأموية (1)
- الدولة العثمانية الجزء الثانى (12)
- الدولة العثمانية الجزء الرابع (3)
- الدولة العثمانية الجزء الأول (8)
- الدولة العثمانية الجزء الثالث (10)
- السودان وأزمة الانفصال (10)
- الشيشان جرح ينزف (7)
- النصرانية ما بين التعريف والتحريف الجزء الأول (1)
- تاريخ الأندلس (1)
- تاريخ أمة (42)
- تاريخ حماس والدفاع عنه (1)
- تاريخ فلسطين (2)
- تحليلات هامة (11)
- تربية الأطفال (1)
- تركستان جرح ينزف (8)
- حدث فى مثل هذا (2)
- دروس فى الفقه (1)
- شخصيات إسلامية (2)
- شخصيات أسلموا (2)
- صحابة الرسول (1)
- عجائب التكنولوجيا (1)
- على الصلابى (1)
- عن الإخوان والبنا (4)
- غرائب من الحياة (1)
- غزة بين النار والحصار (7)
- فتاوى اقتصادية (1)
- فتاوى الدكتور منير جمعة (5)
- فتاوى عامة (6)
- فقه السنة (3)
- فلسطين (9)
- فيديو مؤثر (4)
- قالوا عن الإسلام (3)
- قصص من روائع حضارتنا (23)
- كتاب الكبائر للإمام شيخ الإسلام الذهبى (4)
- كشمير جرح ينزف (7)
- كوسوفا جرح ينزف (5)
- مساجد لها تاريخ (1)
- مقالات الأستاذ ثامر عبد الغني سباعنه (1)
- مقالات الدكتور منير جمعة (17)
- مقالات المشرف (13)
- مقالات رمضانية (1)
- مواعظ الإمام ابن الجوزى (16)
- نقاشات (1)
بحث
بحث هذه المدونة الإلكترونية
Categories
المتابعون
فيديو الأسبوع
أحدث التعليقات
أحدث المقالات
0 التعليقات على هذه المقالة شاركهم برأيك
اكتب تعليقك ورأيك