الصفحة الرئيسية » Archives for فبراير 2011
عهد الخليفة عبد الحميد الثاني
كتبت تحت قسم
الدولة العثمانية الجزء الرابع
,
تاريخ أمة
|
الاثنين، 21 فبراير 2011|
درعمى
الخليفة عبد الحميد الثاني (1293- 1328هـ)
الخليفة عبد الحميد الثاني وهو ابن الخليفة عبد المجيد الذي توفي عام 1293هـ، تسلم الخليفة عبد الحميد الثاني الحكم وقد وصلت الدولة إلى مرحلة من الضعف والركود, سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي, فحاول الخليفة أن ينهض بها بل وبكل بلاد المسلمين التي باتت في حالة سبات عميق, فأراد أن يحرر المسلمين من نفوذ أوربا, وأن يوحدهم, فنادى بالجامعة الإسلامية, وحاول القضاء على الفساد في بلاده, وحاول أن يتجنب الصدام داخليًّا وخارجيًّا ولكن لم تكن أوربا لتتركه يوقظ المسلمين, بل سعت بكل الطرق الممكنة لإحباط محاولاته وحاولت إحاطته بالمشاكل الداخلية والخارجية حتى لا تترك له الفرصة لعمل شيء كما سنرى.
على الصعيد الداخلي:
انتشار مفاهيم القومية: انتشرت في أنحاء الدولة العثمانية مفاهيم القومية بصورة صارخة لم يسبق لها مثيل, وكان روادها يتمثلون في المفتونين بأوربا من المسلمين والنصارى, وسعى النصارى بالذات لنشر هذه المفاهيم, لأنه الطريق الوحيد لمد نفوذهم ولأنهم إذا حاولوا أن يتخذوا طريقًا آخر, مثل التعصب الديني مثلاً, لقضى عليهم, حيث إنهم يمثلون أقلية بالنسبة للمسلمين, وأخذت أوربا تدعم القائمين بالحركات القومية سواء من خلال الإرساليات التنصيرية، أو من خلال فتح بلادها لتكون مقرًّا للجمعيات والهيئات التي تحمل أفكار القومية.
ازدياد نفوذ يهود الدونمة:
ذكرنا من قبل كيف كان دخول يهود الدونمة (الدونمة بمعنى الردة) واستيطانهم في أنحاء الدولة العثمانية, في عهد الخليفة سليمان القانوني بدعم من زوجته روكسلان, وأخذ اليهود يخططون لزيادة نفوذهم في الدولة والعمل على تدميرها, برغم الخدمات التي قدمتها إليهم الدولة, يحركهم في ذلك كرههم وعداؤهم الأبدي والأزلي للمسلمين, كما قال الله : {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82].
ومن نسل اليهود الدونمة برز فتى يدعى ساباتاي في أزمير, وادعى في عام 1057هـ أنه المسيح فأراد رجال الدين اليهودي قتله، فرحل في أنحاء الدولة العثمانية حتى عاد مرة أخرى إلى أزمير, فقبض عليه ونقل إلى أدرنه فخاف أن يصاب بأذى فادعى الإسلام, وأوهم العثمانيين أنه سيعمل على نشر الإسلام بين اليهود. وفي الحقيقة كان يدعوهم لإظهار الإسلام ليدخلوا بين صفوف المسلمين, ويصلوا إلى المراكز العليا في الدولة, ومن ثَمَّ يملكون الزمام وينفذون في المسلمين كافة خططهم العدوانية.
وبالفعل، رحب اليهود بهذه الفكرة وأخذوا يواصلون العمل بها وفي عهد عبد الحميد الثاني ظهر هرتزل صاحب فكرة إنشاء وطن لليهود, وأصر على أن تكون فلسطين هي وطن اليهود, وذلك في مؤتمر بازل بسويسرا عام 1314هـ الذي اجتمع فيه يهود العالم, وحاول هرتزل أن يتقرب إلى الخليفة عبد الحميد الثاني ويقدم له الإغراءات ليمكن لليهود في فلسطين, ولكن الخليفة كان يدرك أغراض هرتزل فلم يحقق له مراده, بل ومنع هجرة اليهود إلى فلسطين فاتجه هرتزل إلى دول أوربا لتساعده في تحقيق هدفه, فوجد عندها السند الكبير وخاصة أنه سيكون وسيلة أخرى للقضاء على الدولة العثمانية.
وكان هرتزل قد عرض على السلطان خمسين مليونًا من الجنيهات الذهب لخزانة الدولة, وخمسة ملايين من الجنيهات الذهب لخزانة السلطان الخاصة, بالإضافة إلى مشاريع أخرى كثيرة لدعم الدولة العثمانية اقتصاديًّا.
أخطار الماسونية:
وهى من إحدى الاختراعات اليهودية, فهي منظمات عالمية تهدف أساسًا إلى تفريق الأمة الواحدة إلى عدة أمم وشعوب, مما يخلق نزاعًا أبديًّا بين شعوبها, فيحارب بعضها بعضًا, وبذا تتحقق الأهداف اليهودية في إفناء شعوب الأرض حتى يظل اليهود هم الباقين فيها؛ ولذلك عملت الماسونية على دعم الحركات الانفصالية ومساندة كل رجل تجد عنده حب التسلط والزعامة والسيادة والاستقلال, وكثر أعضاؤها وأخذوا يساندون بعضهم البعض, وقد وجدت الماسونية في الدولة العثمانية مأربها فكانت الدولة العثمانية التربة الخصبة لتحقيق أهدافها، فعملت على زيادة نفوذها في الدولة
تنظيم الاتحاد والترقي:
كما سبق وأن ذكرنا بدأ المفتونون بأوربا والداعون لمفاهيم القومية في إنشاء المؤسسات والجمعيات التي تحمل أفكارهم, واستطاعت استقطاب الكثير من أبناء الدولة العثمانية, وانضم إليها الكثير من اليهود والنصارى وأعضاء الماسونية, لتكون هذه الجمعيات من وسائل تحقيق أهدافهم, وكان من أهم هذه الجمعيات جمعية تركيا الفتاة, التي تأسست في باريس وكان لها فروع أخرى في برلين, وفي أنحاء الدولة العثمانية في سالونيك وإستانبول, واستطاعت أن تضع لها قدمًا في الجيش العثماني, وكان لها جناح عسكري عرف بتنظيم الاتحاد العثماني وكان لها جناح مدني هو الانتظام والترقي, واتفق الفريقان أن تكون جمعيتهم باسم (الاتحاد والترقي), وكانت الماسونية الدعاية الأساسية لها ومن ورائها أعداء الإسلام كافة.
وامتد نفوذ الاتحاد والترقي في الدولة, فضم إليه الكثير من ضباط الفيلق الأول المسيطر على إستانبول, وكذلك الفيلقين الثاني والثالث المرابطين في الولايات العثمانية في أوربا.
ولما استفحل أمر الاتحاد والترقي وسيطروا على أكثر الجيش, فرضوا على الخليفة إعلان الدستور, ولم يستطع الخليفة مقاومتهم, فأعلن الدستور وسيطر الاتحاديون على معظم مقاعد المجالس النيابية, ووجدوا أن الخليفة سيكون عائقًا في تحقيق أهدافهم, فقاموا بإثارة الاضطرابات في البلاد, فتحرك جزء من أتباعهم نحو المجلس النيابي يظهرون تمردهم على الدستور, ودعوتهم لتطبيق الشريعة الإسلامية, ويطالبون الخليفة بعزل أعضاء الاتحاد والترقي المسيطرون على المجلس النيابي من مناصبهم.
وما كانت هذه الاضطرابات إلا من عمل رجال الاتحاد والترقي, لتكون لهم ذريعة لكي يتقدم الجيش الموجود في سالونيك بحجة حماية الدستور والمجلس النيابي, واستطاعوا بالفعل السيطرة على إستانبول وعزلوا الخليفة عبد الحميد الثاني وولوا أخاه محمد الخامس مكانه وبذلك تحولت السلطة المطلقة من يد الخليفة إلى أيدي الاتحاديين, ليجروا البلاد إلى حافة الهاوية وبذلك كان الخليفة عبد الحميد الثاني آخر الخلفاء الذين كانت لهم سلطة في البلاد, أما من سيأتي بعده فسيكون صورة فقط، أما السيطرة الحقيقية فتكون بأيدي رجال الاتحاد والترقي.
ومما يذكر في عهد الخليفة عبد الحميد الثاني أنه قام بفتح المدارس والجامعات, والمكتبات, والمستشفيات, ودور المعلمين, ومد أنابيب المياه, ومد الخط الحديدي الحجازي من دمشق إلى المدينة المنورة, وحاول إعداد جيش كفء مدرب تدريبًا حديثًا على أيدي قادة ألمان, والكثير من الإنجازات ولكن لم يتركه أعداء الإسلام ليكمل المسيرة.
انتشار الثورات في الولايات الأوربية:
عملت دول أوربا على إشعال الثورات في أنحاء الدولة العثمانية, وبخاصة في الولايات الأوربية، وذلك تمهيدًا لفصلها عن الدولة العثمانية حتى لا تجعل للمسلمين قدمًا في أوربا.
ومن أمثلة هذه الثورات الثورة التي حدثت في بلاد الهرسك, وأخمدتها الدولة, وكانت دول أوربا تستغل دائمًا الثورات للتدخل في شئون الدولة, وتفرض عليها لائحة لمعاملة النصارى, وحدثت أيضًا ثورة في بلاد البلغار؛ بسبب أن الدولة أسكنت بعض العائلات الشركسية التي احتل الروس أرضهم في بلغاريا, وكانت روسيا هي الراعي الرئيسي للثورة, تشاركها النمسا, وكانت روسيا والنمسا تحتضن الجمعيات الداعية للاستقلال في بلغاريا والصرب والجبل الأسود, وغيرهم من الولايات الأوربية.
ثورة الصرب والجبل الأسود:
شجعت روسيا والنمسا الصرب والجبل الأسود (مونتجيرو), على حرب العثمانيين حيث تريد النمسا ضم البوسنة والهرسك, بينما تريد روسيا ضم الأفلاق والبغدان وبلغاريا, ووعدت روسيا النمسا والصرب والجبل الأسود بالوقوف بجانبهم إذا قامت حرب بينهم وبين العثمانيين, وبدأت ذرائع الحرب بطلب الصرب إخماد الثورة في البوسنة, وطلبت الجبل الأسود (مونتجيرو), زيادة رقعتها على حساب الهرسك, فلم يعط لطلبها أي اهتمام, فبدأت جيوشهما تتوغل في الأراضي العثمانية, وهي في الواقع جيوش روسيا التي تسللت إلى البلاد, فكانت الحرب مع روسيا وبرغم ذلك استطاعت الجيوش العثمانية -وخاصة بعد وصول الكثير من الجنود المصريين- الانتصار على الصرب وأصبحوا على مشارف بلغراد, غير أن تدخل أوربا قد أوقف الحرب.
وعرض سفراء أوربا على العثمانيين خطة تقوم على تقسيم بلغاريا إلى ولايتين يعين عليهما أمراء نصارى, وأن تتكون نصف الحامية العثمانية المرابطة هناك من النصارى, وأن تنفذ هذه المطالب في البوسنة والهرسك أيضًا, وأن تعطى بعض الأراضي للصرب والجبل الأسود, فرفضت الدولة, فغادر سفراء أوربا, الدولة العثمانية بما يشير إلى قطع العلاقات السياسية معها.
عملت الدولة على عقد صلح منفرد مع الصرب تسحب بمقتضاه قواتها من الصرب, وتتعهد الصرب بعدم بناء قلاع جديدة, وأن يرفع علم الصرب والعثمانيين إشارة إلى الحماية العثمانية.
على الصعيد الخارجي:
الحرب مع روسيا: قدمت دول أوربا لائحة للدولة العثمانية تقضي بتحسين الأحوال المعيشية للنصارى في الدولة العثمانية, ومراقبة الدول الأوربية لتنفيذ إجراءات التحسين.
فرفضت الدولة اللائحة؛ لأن هذا يعتبر تدخلاً صريحًا في شئونها, فاستغلت روسيا الرفض واعتبرته سببًا كافيًا للحرب, وفي هذه المرة أطلقت أوربا العنان لروسيا لتتصرف كيفما تشاء مع العثمانيين.. كانت روسيا قد عقدت اتفاقًا مع الأفلاق والبغدان لوضع كافة إمكاناتهما تحت تصرف روسيا, فدخلت روسيا الأفلاق والبغدان, ثم عبرت نهر الدانوب واستطاعت التوغل في بلغاريا حتى احتلوا أدرنه وأصبحوا على مسافة 50 كيلو مترًا فقط من إستانبول, في الوقت الذي تقدمت فيه الجيوش الروسية من الشرق في الأناضول, واستغل الصرب والجبل الأسود الفرصة فأعلنا الحرب على الدولة، فاضطرت الدولة إلى طلب الصلح.
ومما يذكر في هذه الحرب أن نصارى بلغاريا استغلوا دخول الروس بلادهم فأخذوا يفتكون بالمسلمين في بلغاريا, ويرتكبون فيهم أبشع الجرائم, ففر من فر منهم، ولجأ الكثير منهم للجبال ليقوموا بحرب عصابات على مجرمي بلغاريا.
معاهدة سان استيفانوس:
ومع توقف القتال عام 1295هـ عقدت معاهدة سان استيفانوس التي فرضت على الدولة العثمانية، وكان من نصوصها:
1- استقلال الصرب والجبل الأسود نهائيًّا عن العثمانيين.
2- الاستقلال التام للأفلاق والبغدان وتكوين دولة رومانيا باتحادهما مع ترانسلفانيا وبسارابيا.
3- الاستقلال الإداري لبلغاريا وإخلائها تمامًا من الجيوش العثمانية.
4- دفع غرامة حربية لروسيا مقدارها (245.217.391) ليرة ذهبية، ويمكن لروسيا الحصول على الأراضي مقابلها.
5- أن يخلي المسلمون ديارهم في الأراضي التي فقدتها الدولة العثمانية، ويمكن لهم أن يبيعوا أملاكهم.
6- حرية الحركة لسفن روسيا في المضائق العثمانية.
7- إصلاح الأحوال المعيشية للنصارى في الدولة العثمانية.
وطبعًا أرادت بقية دول أوربا أخذ نصيبها من الكعكة العثمانية أو تركة الرجل المريض, كما كانوا يطلقون على الدولة العثمانية, فطلبت إنجلترا من العثمانيين أن تحتل جزيرة قبرص حتى تحميها من ازدياد الخطر الروسي فاضطرت الدولة لقبول احتلالها ثم عقد مؤتمر برلين لتقسيم الولايات الأوربية على دول أوربا.
معاهدة برلين:
وقعت عام 1295هـ معاهدة برلين، والتي عدلت معاهدة سان استيفانوس للآتي:
1- استقلال بلغاريا نهائيًّا.
2- إعطاء البوسنة والهرسك للنمسا.
3- تعطى بسارابيا لروسيا وتحتفظ رومانيا منها بمقاطعة دوبروجة.
4- تتكون للدولة العثمانية في أوربا ولاية يطلق عليها الرومللي الشرقي (وتشمل الآن أجزاء من بلغاريا ومقدونيا وألبانيا وإقليم كوسوفو التابع الآن ليوغوسلافيا الجديدة وجزء من الهرسك, وجزء من اليونان)، وتكون القوات المرابطة فيها مشتركة من الروس والعثمانيين وحاكمها نصراني.
5- تزيد حدود اليونان إلى الشمال، برغم أنها لم تكن طرفًا في الحرب.
احتلال تونس:
تمكنت فرنسا عام 1299هـ من احتلال تونس، ولم تستطع الدولة العثمانية أن تفعل شيئًا.
احتلال مصر:
تدخلت إنجلترا في شئون مصر، واستطاعت احتلالها عام 1299هـ بعد موقعة التل الكبير.
احتلال السودان:
كانت السودان تابعة لمصر منذ أن فتحها محمد علي, فما إن احتل الإنجليز مصر حتى اتجهت أعينهم للسودان, واستغلوا قيام الحركة المهدية التي ادعى قائدها أنه هو المهدي المنتظر, واستطاع أن يسيطر على كثير من أجزاء السودان، فاستطاع الإنجليز إخماد حركته، وبذلك تمكنوا من السيطرة على السودان.
شرقي إفريقيا التابع لمصر:
أما عن هذا الجزء فقد تقاسمته فرنسا وإيطاليا مع الحبشة، وتوفي الخليفة عبد الحميد الثاني بعد عزله عام 1336هـ.
الخليفة عبد الحميد الثاني وهو ابن الخليفة عبد المجيد الذي توفي عام 1293هـ، تسلم الخليفة عبد الحميد الثاني الحكم وقد وصلت الدولة إلى مرحلة من الضعف والركود, سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي, فحاول الخليفة أن ينهض بها بل وبكل بلاد المسلمين التي باتت في حالة سبات عميق, فأراد أن يحرر المسلمين من نفوذ أوربا, وأن يوحدهم, فنادى بالجامعة الإسلامية, وحاول القضاء على الفساد في بلاده, وحاول أن يتجنب الصدام داخليًّا وخارجيًّا ولكن لم تكن أوربا لتتركه يوقظ المسلمين, بل سعت بكل الطرق الممكنة لإحباط محاولاته وحاولت إحاطته بالمشاكل الداخلية والخارجية حتى لا تترك له الفرصة لعمل شيء كما سنرى.
على الصعيد الداخلي:
انتشار مفاهيم القومية: انتشرت في أنحاء الدولة العثمانية مفاهيم القومية بصورة صارخة لم يسبق لها مثيل, وكان روادها يتمثلون في المفتونين بأوربا من المسلمين والنصارى, وسعى النصارى بالذات لنشر هذه المفاهيم, لأنه الطريق الوحيد لمد نفوذهم ولأنهم إذا حاولوا أن يتخذوا طريقًا آخر, مثل التعصب الديني مثلاً, لقضى عليهم, حيث إنهم يمثلون أقلية بالنسبة للمسلمين, وأخذت أوربا تدعم القائمين بالحركات القومية سواء من خلال الإرساليات التنصيرية، أو من خلال فتح بلادها لتكون مقرًّا للجمعيات والهيئات التي تحمل أفكار القومية.
ازدياد نفوذ يهود الدونمة:
ذكرنا من قبل كيف كان دخول يهود الدونمة (الدونمة بمعنى الردة) واستيطانهم في أنحاء الدولة العثمانية, في عهد الخليفة سليمان القانوني بدعم من زوجته روكسلان, وأخذ اليهود يخططون لزيادة نفوذهم في الدولة والعمل على تدميرها, برغم الخدمات التي قدمتها إليهم الدولة, يحركهم في ذلك كرههم وعداؤهم الأبدي والأزلي للمسلمين, كما قال الله : {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82].
ومن نسل اليهود الدونمة برز فتى يدعى ساباتاي في أزمير, وادعى في عام 1057هـ أنه المسيح فأراد رجال الدين اليهودي قتله، فرحل في أنحاء الدولة العثمانية حتى عاد مرة أخرى إلى أزمير, فقبض عليه ونقل إلى أدرنه فخاف أن يصاب بأذى فادعى الإسلام, وأوهم العثمانيين أنه سيعمل على نشر الإسلام بين اليهود. وفي الحقيقة كان يدعوهم لإظهار الإسلام ليدخلوا بين صفوف المسلمين, ويصلوا إلى المراكز العليا في الدولة, ومن ثَمَّ يملكون الزمام وينفذون في المسلمين كافة خططهم العدوانية.
وبالفعل، رحب اليهود بهذه الفكرة وأخذوا يواصلون العمل بها وفي عهد عبد الحميد الثاني ظهر هرتزل صاحب فكرة إنشاء وطن لليهود, وأصر على أن تكون فلسطين هي وطن اليهود, وذلك في مؤتمر بازل بسويسرا عام 1314هـ الذي اجتمع فيه يهود العالم, وحاول هرتزل أن يتقرب إلى الخليفة عبد الحميد الثاني ويقدم له الإغراءات ليمكن لليهود في فلسطين, ولكن الخليفة كان يدرك أغراض هرتزل فلم يحقق له مراده, بل ومنع هجرة اليهود إلى فلسطين فاتجه هرتزل إلى دول أوربا لتساعده في تحقيق هدفه, فوجد عندها السند الكبير وخاصة أنه سيكون وسيلة أخرى للقضاء على الدولة العثمانية.
وكان هرتزل قد عرض على السلطان خمسين مليونًا من الجنيهات الذهب لخزانة الدولة, وخمسة ملايين من الجنيهات الذهب لخزانة السلطان الخاصة, بالإضافة إلى مشاريع أخرى كثيرة لدعم الدولة العثمانية اقتصاديًّا.
أخطار الماسونية:
وهى من إحدى الاختراعات اليهودية, فهي منظمات عالمية تهدف أساسًا إلى تفريق الأمة الواحدة إلى عدة أمم وشعوب, مما يخلق نزاعًا أبديًّا بين شعوبها, فيحارب بعضها بعضًا, وبذا تتحقق الأهداف اليهودية في إفناء شعوب الأرض حتى يظل اليهود هم الباقين فيها؛ ولذلك عملت الماسونية على دعم الحركات الانفصالية ومساندة كل رجل تجد عنده حب التسلط والزعامة والسيادة والاستقلال, وكثر أعضاؤها وأخذوا يساندون بعضهم البعض, وقد وجدت الماسونية في الدولة العثمانية مأربها فكانت الدولة العثمانية التربة الخصبة لتحقيق أهدافها، فعملت على زيادة نفوذها في الدولة
تنظيم الاتحاد والترقي:
كما سبق وأن ذكرنا بدأ المفتونون بأوربا والداعون لمفاهيم القومية في إنشاء المؤسسات والجمعيات التي تحمل أفكارهم, واستطاعت استقطاب الكثير من أبناء الدولة العثمانية, وانضم إليها الكثير من اليهود والنصارى وأعضاء الماسونية, لتكون هذه الجمعيات من وسائل تحقيق أهدافهم, وكان من أهم هذه الجمعيات جمعية تركيا الفتاة, التي تأسست في باريس وكان لها فروع أخرى في برلين, وفي أنحاء الدولة العثمانية في سالونيك وإستانبول, واستطاعت أن تضع لها قدمًا في الجيش العثماني, وكان لها جناح عسكري عرف بتنظيم الاتحاد العثماني وكان لها جناح مدني هو الانتظام والترقي, واتفق الفريقان أن تكون جمعيتهم باسم (الاتحاد والترقي), وكانت الماسونية الدعاية الأساسية لها ومن ورائها أعداء الإسلام كافة.
وامتد نفوذ الاتحاد والترقي في الدولة, فضم إليه الكثير من ضباط الفيلق الأول المسيطر على إستانبول, وكذلك الفيلقين الثاني والثالث المرابطين في الولايات العثمانية في أوربا.
ولما استفحل أمر الاتحاد والترقي وسيطروا على أكثر الجيش, فرضوا على الخليفة إعلان الدستور, ولم يستطع الخليفة مقاومتهم, فأعلن الدستور وسيطر الاتحاديون على معظم مقاعد المجالس النيابية, ووجدوا أن الخليفة سيكون عائقًا في تحقيق أهدافهم, فقاموا بإثارة الاضطرابات في البلاد, فتحرك جزء من أتباعهم نحو المجلس النيابي يظهرون تمردهم على الدستور, ودعوتهم لتطبيق الشريعة الإسلامية, ويطالبون الخليفة بعزل أعضاء الاتحاد والترقي المسيطرون على المجلس النيابي من مناصبهم.
وما كانت هذه الاضطرابات إلا من عمل رجال الاتحاد والترقي, لتكون لهم ذريعة لكي يتقدم الجيش الموجود في سالونيك بحجة حماية الدستور والمجلس النيابي, واستطاعوا بالفعل السيطرة على إستانبول وعزلوا الخليفة عبد الحميد الثاني وولوا أخاه محمد الخامس مكانه وبذلك تحولت السلطة المطلقة من يد الخليفة إلى أيدي الاتحاديين, ليجروا البلاد إلى حافة الهاوية وبذلك كان الخليفة عبد الحميد الثاني آخر الخلفاء الذين كانت لهم سلطة في البلاد, أما من سيأتي بعده فسيكون صورة فقط، أما السيطرة الحقيقية فتكون بأيدي رجال الاتحاد والترقي.
ومما يذكر في عهد الخليفة عبد الحميد الثاني أنه قام بفتح المدارس والجامعات, والمكتبات, والمستشفيات, ودور المعلمين, ومد أنابيب المياه, ومد الخط الحديدي الحجازي من دمشق إلى المدينة المنورة, وحاول إعداد جيش كفء مدرب تدريبًا حديثًا على أيدي قادة ألمان, والكثير من الإنجازات ولكن لم يتركه أعداء الإسلام ليكمل المسيرة.
انتشار الثورات في الولايات الأوربية:
عملت دول أوربا على إشعال الثورات في أنحاء الدولة العثمانية, وبخاصة في الولايات الأوربية، وذلك تمهيدًا لفصلها عن الدولة العثمانية حتى لا تجعل للمسلمين قدمًا في أوربا.
ومن أمثلة هذه الثورات الثورة التي حدثت في بلاد الهرسك, وأخمدتها الدولة, وكانت دول أوربا تستغل دائمًا الثورات للتدخل في شئون الدولة, وتفرض عليها لائحة لمعاملة النصارى, وحدثت أيضًا ثورة في بلاد البلغار؛ بسبب أن الدولة أسكنت بعض العائلات الشركسية التي احتل الروس أرضهم في بلغاريا, وكانت روسيا هي الراعي الرئيسي للثورة, تشاركها النمسا, وكانت روسيا والنمسا تحتضن الجمعيات الداعية للاستقلال في بلغاريا والصرب والجبل الأسود, وغيرهم من الولايات الأوربية.
ثورة الصرب والجبل الأسود:
شجعت روسيا والنمسا الصرب والجبل الأسود (مونتجيرو), على حرب العثمانيين حيث تريد النمسا ضم البوسنة والهرسك, بينما تريد روسيا ضم الأفلاق والبغدان وبلغاريا, ووعدت روسيا النمسا والصرب والجبل الأسود بالوقوف بجانبهم إذا قامت حرب بينهم وبين العثمانيين, وبدأت ذرائع الحرب بطلب الصرب إخماد الثورة في البوسنة, وطلبت الجبل الأسود (مونتجيرو), زيادة رقعتها على حساب الهرسك, فلم يعط لطلبها أي اهتمام, فبدأت جيوشهما تتوغل في الأراضي العثمانية, وهي في الواقع جيوش روسيا التي تسللت إلى البلاد, فكانت الحرب مع روسيا وبرغم ذلك استطاعت الجيوش العثمانية -وخاصة بعد وصول الكثير من الجنود المصريين- الانتصار على الصرب وأصبحوا على مشارف بلغراد, غير أن تدخل أوربا قد أوقف الحرب.
وعرض سفراء أوربا على العثمانيين خطة تقوم على تقسيم بلغاريا إلى ولايتين يعين عليهما أمراء نصارى, وأن تتكون نصف الحامية العثمانية المرابطة هناك من النصارى, وأن تنفذ هذه المطالب في البوسنة والهرسك أيضًا, وأن تعطى بعض الأراضي للصرب والجبل الأسود, فرفضت الدولة, فغادر سفراء أوربا, الدولة العثمانية بما يشير إلى قطع العلاقات السياسية معها.
عملت الدولة على عقد صلح منفرد مع الصرب تسحب بمقتضاه قواتها من الصرب, وتتعهد الصرب بعدم بناء قلاع جديدة, وأن يرفع علم الصرب والعثمانيين إشارة إلى الحماية العثمانية.
على الصعيد الخارجي:
الحرب مع روسيا: قدمت دول أوربا لائحة للدولة العثمانية تقضي بتحسين الأحوال المعيشية للنصارى في الدولة العثمانية, ومراقبة الدول الأوربية لتنفيذ إجراءات التحسين.
فرفضت الدولة اللائحة؛ لأن هذا يعتبر تدخلاً صريحًا في شئونها, فاستغلت روسيا الرفض واعتبرته سببًا كافيًا للحرب, وفي هذه المرة أطلقت أوربا العنان لروسيا لتتصرف كيفما تشاء مع العثمانيين.. كانت روسيا قد عقدت اتفاقًا مع الأفلاق والبغدان لوضع كافة إمكاناتهما تحت تصرف روسيا, فدخلت روسيا الأفلاق والبغدان, ثم عبرت نهر الدانوب واستطاعت التوغل في بلغاريا حتى احتلوا أدرنه وأصبحوا على مسافة 50 كيلو مترًا فقط من إستانبول, في الوقت الذي تقدمت فيه الجيوش الروسية من الشرق في الأناضول, واستغل الصرب والجبل الأسود الفرصة فأعلنا الحرب على الدولة، فاضطرت الدولة إلى طلب الصلح.
ومما يذكر في هذه الحرب أن نصارى بلغاريا استغلوا دخول الروس بلادهم فأخذوا يفتكون بالمسلمين في بلغاريا, ويرتكبون فيهم أبشع الجرائم, ففر من فر منهم، ولجأ الكثير منهم للجبال ليقوموا بحرب عصابات على مجرمي بلغاريا.
معاهدة سان استيفانوس:
ومع توقف القتال عام 1295هـ عقدت معاهدة سان استيفانوس التي فرضت على الدولة العثمانية، وكان من نصوصها:
1- استقلال الصرب والجبل الأسود نهائيًّا عن العثمانيين.
2- الاستقلال التام للأفلاق والبغدان وتكوين دولة رومانيا باتحادهما مع ترانسلفانيا وبسارابيا.
3- الاستقلال الإداري لبلغاريا وإخلائها تمامًا من الجيوش العثمانية.
4- دفع غرامة حربية لروسيا مقدارها (245.217.391) ليرة ذهبية، ويمكن لروسيا الحصول على الأراضي مقابلها.
5- أن يخلي المسلمون ديارهم في الأراضي التي فقدتها الدولة العثمانية، ويمكن لهم أن يبيعوا أملاكهم.
6- حرية الحركة لسفن روسيا في المضائق العثمانية.
7- إصلاح الأحوال المعيشية للنصارى في الدولة العثمانية.
وطبعًا أرادت بقية دول أوربا أخذ نصيبها من الكعكة العثمانية أو تركة الرجل المريض, كما كانوا يطلقون على الدولة العثمانية, فطلبت إنجلترا من العثمانيين أن تحتل جزيرة قبرص حتى تحميها من ازدياد الخطر الروسي فاضطرت الدولة لقبول احتلالها ثم عقد مؤتمر برلين لتقسيم الولايات الأوربية على دول أوربا.
معاهدة برلين:
وقعت عام 1295هـ معاهدة برلين، والتي عدلت معاهدة سان استيفانوس للآتي:
1- استقلال بلغاريا نهائيًّا.
2- إعطاء البوسنة والهرسك للنمسا.
3- تعطى بسارابيا لروسيا وتحتفظ رومانيا منها بمقاطعة دوبروجة.
4- تتكون للدولة العثمانية في أوربا ولاية يطلق عليها الرومللي الشرقي (وتشمل الآن أجزاء من بلغاريا ومقدونيا وألبانيا وإقليم كوسوفو التابع الآن ليوغوسلافيا الجديدة وجزء من الهرسك, وجزء من اليونان)، وتكون القوات المرابطة فيها مشتركة من الروس والعثمانيين وحاكمها نصراني.
5- تزيد حدود اليونان إلى الشمال، برغم أنها لم تكن طرفًا في الحرب.
احتلال تونس:
تمكنت فرنسا عام 1299هـ من احتلال تونس، ولم تستطع الدولة العثمانية أن تفعل شيئًا.
احتلال مصر:
تدخلت إنجلترا في شئون مصر، واستطاعت احتلالها عام 1299هـ بعد موقعة التل الكبير.
احتلال السودان:
كانت السودان تابعة لمصر منذ أن فتحها محمد علي, فما إن احتل الإنجليز مصر حتى اتجهت أعينهم للسودان, واستغلوا قيام الحركة المهدية التي ادعى قائدها أنه هو المهدي المنتظر, واستطاع أن يسيطر على كثير من أجزاء السودان، فاستطاع الإنجليز إخماد حركته، وبذلك تمكنوا من السيطرة على السودان.
شرقي إفريقيا التابع لمصر:
أما عن هذا الجزء فقد تقاسمته فرنسا وإيطاليا مع الحبشة، وتوفي الخليفة عبد الحميد الثاني بعد عزله عام 1336هـ.
تاريخ المسلمين في البرازيل.. الجذور التاريخية
كتبت تحت قسم
تاريخ أمة
|
|
درعمى
الشيخ خالد رزق تقي الدين
تاريخ الإسلام والمسلمين في البرازيلكنت وما زلت شغوفًا بالبحث حول تاريخ الإسلام والمسلمين في البرازيل، طالبًا سبر أغوار هذه الحقبة التاريخية، للتعرف على أسباب انقراض الجيل الأول من مسلمي البرازيل، ذلك البلد البعيد عن العالم الإسلامي، وكذلك لالتماس أفضل السبل للحفاظ على مسلمي البرازيل الجدد، والاستفادة من تجارب الماضي، وهو الهدف الأساسي لدراسة التاريخ.
سأتناول في هذا البحث تاريخ المسلمين الماضي والحاضر، وسأطرح نظرة مستقبلية لما يمكن أن يقدمه أهل الخبرة والاهتمام من دعم لمستقبل أفضل لوضع المسلمين في البرازيل.
تم اكتشاف البرازيل عام 1500م على يد البحار "بيدرو ألفارس كابرال"، هذا البلد الجميل الذي ضم المتناقضات المختلفة، والتي دفعت عالم الاجتماع البرازيلي جوبيرتو فريري لتأليف كتابًا حولها سماه "عالم جديد في الأوساط الاستوائية".
هذا التمازج في تكوينة الشعب البرازيلي الاجتماعية والحضارية، أثر على كل شيء في هذا البلد حتى في سبب تسميته بهذا الاسم، فيوجد رأي يقول: إن كلمة "البرازيل "ترجع لكلمة "براسيل" نسبة لنوع من الأشجار كانوا يستخرجون منه الصبغة الحمراء، وأخرى "هي برازيل" Hy Brasil والتي تعني أرض العظمة والقوة والجمال، وثالثة ترجع لكلمة "Bress" بريس وتعني المبارك بلغة شعوب غرب أوربا. والمتعارف عليه في معظم المصادر التاريخية هو الرأي الأول.
تختلف الروايات حول أول اتصال للمسلمين بالبرازيل، فيذهب بعض المؤرخين إلى احتمالية وصولهم إلى أرض البرازيل قبل اكتشافها عن طريق بعض القوارب؛ نظرًا لتقدمهم في علوم البحار، ويستدلون على ذلك ببعض الكتابات والنقوش العربية التي وجدت محفورة على بعض الأحجار في مدينة "ريو دي جانيرو" وغيرها من سواحل البرازيل وأمريكا اللاتينية عمومًا، وكذلك بعض الروايات في الكتب التاريخية لعلماء المسلمين الذين اهتموا بعلوم الجغرافيا، ولكن هذه الروايات تحتاج لمزيد من البحث والتحقيق العلمي الدقيق.
وتذهب الروايات الأخرى إلى أن مكتشفي أمريكا والبرازيل اصطحبوا معهم بعض المرشدين المسلمين المتمرسين في علوم البحار، هؤلاء المرشدون تظاهروا بالنصرانية للهروب من محاكم التفتيش في إسبانيا "الموريسكيين"، وحال وصلوهم إلى البرازيل بدءوا في إظهار بعض الشعائر الإسلامية، ولم يلبثوا كثيرًا حتى تم اكتشاف أمرهم وأقيمت لهم محاكم تفتيش من قبل البرتغاليين في مدينة باهية 1594م، وتم تحديد بعض المواصفات التي تبين من هو مسلم سرًّا ونصراني جهرًا، مثل" الاغتسال والاستيقاظ المبكر والصيام ونظافة الملابس"[1].
وذهب إلى هذا الرأي الدكتور علي الكتاني رحمه الله، وهو الخبير بشئون الأقليات المسلمة في العالم، يقول: "عندما قام البرتغاليون بغزو البرازيل، منعوا المسلمين من الهجرة إلى هناك، غير أن هذا المنع لم يحل دون وصول العديد من الموريسكيين الذين كانوا من الكثرة، بحيث أشهروا في القرن السادس عشر إسلامهم، وقد أعلنت محكمة باهية بسبب ذلك بدء العمل بمحاكم التفتيش الكاثوليكية منذ عام 1594م، هذه المحاكم نفذت ضدهم أحكامًا دموية تمثلت في إعدام أو إحراق أو استعباد الآلاف منهم"[2].
كانت خبرة المستعمر البرتغالي قليلة في مجال استصلاح الأراضي، ولديهم مساحات شاسعة من أرض البرازيل البكر التي تم اكتشافها، فبدءوا عملية استجلاب العبيد من إفريقيا عام 1538م، وبعد 40 عامًا كان قد تم استجلاب 14 ألف عبد، ثم 600 ألف من أنجولا، وخصوصًا من قبائل "داهوتي - الهوسا - أشانتي - الفولاني ".
إن البحث يقودنا للتعرف على أوضاع المسلمين في إفريقيا بدايات القرن السادس عشر، وهي الفترة التي تم فيها بيع هذه الأعداد الهائلة من الأفارقة، والتي تقدر بالملايين "فقط من دولة بنين ثلاثة ملايين تم بيعهم خلال القرن السابع عشر"[3].
كانت إفريقيا في ذلك الوقت لا تزال تنعم بآثار الممالك الإسلامية القوية، وما كان لديها من حضارات زاهرة، وعلوم مقدمة، في مجالات الزراعة، والعمارة، والثقافة والفنون، والصناعات المختلفة، ولقد تأثر هؤلاء العبيد -بلا شك- بتلك الثقافات المتعددة، والعلوم المزدهرة، وكانت سببًا لترك بصمتهم الواضحة في بناء حضارة الدولة البرازيلية الجديدة.
تعتبر الفترة من 1000 إلى 1500 للميلاد العصر الذهبي بالنسبة لتطور منطقة غرب إفريقيا، حيث فترة توسع وازدهار تجاري بين المدن والدول والإمبراطوريات وفي جنوب شرق السودان كانت دول الهوسا وإمبراطورية كانيم - بورنو من أهم الكيانات السياسية في تلك المنطقة.
لقد تم انتزاع هؤلاء العبيد قسرًا من أرضهم، وعوملوا معاملة غير آدمية، وسيقوا إلى بلاد بعيدة ومجهولة لهم، ومات منهم الكثير أثناء عملية النقل الوحشية، ومن وصل منهم إلى أرض البرازيل أرغم على التنصُّر، وعاش في ظروف غير آدمية[4].
يقول عياش دراجي: "مائة وخمسون كيلو مترًا طول طريق العبيد في بنين لم يبق منها سوى أربعة كيلو مترًا، ولكن لا بد من التوقف عند الشجرة المقدسة التي تُسمى "شجرة النسيان"، إذ يقوم الرجال من العبيد بالطواف حولها تسع مرات والنساء سبع مرات، وتلك الطقوس الوثنية كان الهدف منها حمل العبد على نسيان الماضي وغسل الذاكرة، ثم ينتقل العبيد إلى المحطة الثالثة ليتم حبسهم في ركن خاص إلى أن تصل السفن وقد يدوم الانتظار أربعة أشهر، يحبسون في ركن زوماي، أي المكان الموحش الذي لا نار ولا نور فيه، يُقسَّمون إلى أفواج في زنزانات مظلمة لتعويدهم على الصبر في عنابر السفن الضيقة"[5].
حينما وصل هؤلاء العبيد إلى أرض البرازيل تم تعميدهم، ولكنهم ظلوا محافظين على إسلامهم، يمارسون شعائرهم الإسلامية خفية، ويحفظون صفحات من القرآن، وكان بينهم علماء ومشايخ، ظلوا يوجهونهم للتمسك بدينهم، وقد أقاموا داخل أكواخهم حِلَق القرآن، ومجالس العلم، وكان نتيجة هذا التمسك القوي بالإسلام أن سمح لهم أسيادهم البرتغاليون بهامش من الحرية الدينية.
وتذكر بعض الكتب التاريخية أن هؤلاء العبيد كانوا أسرى ملك داهومي الوثني، أسرهم في حروبه مع الدول الإسلامية وباعهم للبرتغاليين، وصادف أن كان من بين هؤلاء علماء في الدين، فنجحوا في الحفاظ على علمهم وأسسوا جاليات إسلامية قوية ومنظمة من المستعبدين في ولايات "باهية - وريو دي جانيرو - وسان لويس دو مرانيون"، ونجحوا في إدخال كثير من العبيد الآخرين في الإسلام، وكانت لهم المدارس الإسلامية والمساجد وشيء من الحرية الدينية، وكان يسميهم البرتغاليون بالمعلمين"[6].
يتفق المؤرخ "نينا رودريجيز" مع هذا القول ويوضح ذلك في مقال له تحت عنوان (المسلمون الزنوج في البرازيل)، اعتمد فيه على أرشيفات الشرطة ومراسلات حكام الولايات، وتصريحات المتهمين المتورطين في التمرد الذي قام به الزنوج المسلمون ضد نظام الرق الذي كان وراء تهجيرهم إلى البرازيل"[7]. ولقد زار هذا المؤرخ بعض أئمة الزنوج بمدينتي باهية وريو دي جانيرو، وتحدث عن أنشطتهم ولباسهم ومبررات تمردهم وعلاقتهم ببقية الزنوج غير المسلمين"[8].
ويؤكد الباحث الإيثنوغرافي الفرنسي "روجيه باستيد" أن المسلمين الزنوج كانت لهم مساجد في الأغواس، وبرنامبوكو وباهية[9].
كل هذه الدراسات تؤكد وتصف الإسلام بأنه الديانة التي تبعث على عزة النفس وتقاوم كل محاولات التمسيح (التنصير)، كما تصف الذين يدينون بها في البرازيل بـ "أناس متسامحين ثائرين لهم عزة نفس"[10].
[1] المسلمون في أوربا وأمريكا ص251.
[2] المصدر السابق ص35.
[3] المصدر موقع foxnews.
[4] توجد وثيقة مهمة جدًّا لواحد من هؤلاء العبيد اسمه "محمد واقواقوا" وقد تم أسره من بنين، وسيق إلى البرازيل ثم نال حريته حينما ذهب لأمريكا على ظهر سفينة، وكان يجيد الكتابة، فقام بكتابة مذكراته بمساعدة أحد الأمريكان "صمويل مور" عام 1854م.
[5] موقع الجزيرة.
[6] المسلمون في أوربا وأمريكا ص251.
[7] Jornal de Janeiro 2/11/1900.
[8] الجاليات العربية في أمريكا اللاتينية ص207.
[9] المصدر السابق.
[10] المصدر السابق.
تاريخ الإسلام والمسلمين في البرازيلكنت وما زلت شغوفًا بالبحث حول تاريخ الإسلام والمسلمين في البرازيل، طالبًا سبر أغوار هذه الحقبة التاريخية، للتعرف على أسباب انقراض الجيل الأول من مسلمي البرازيل، ذلك البلد البعيد عن العالم الإسلامي، وكذلك لالتماس أفضل السبل للحفاظ على مسلمي البرازيل الجدد، والاستفادة من تجارب الماضي، وهو الهدف الأساسي لدراسة التاريخ.
سأتناول في هذا البحث تاريخ المسلمين الماضي والحاضر، وسأطرح نظرة مستقبلية لما يمكن أن يقدمه أهل الخبرة والاهتمام من دعم لمستقبل أفضل لوضع المسلمين في البرازيل.
تم اكتشاف البرازيل عام 1500م على يد البحار "بيدرو ألفارس كابرال"، هذا البلد الجميل الذي ضم المتناقضات المختلفة، والتي دفعت عالم الاجتماع البرازيلي جوبيرتو فريري لتأليف كتابًا حولها سماه "عالم جديد في الأوساط الاستوائية".
هذا التمازج في تكوينة الشعب البرازيلي الاجتماعية والحضارية، أثر على كل شيء في هذا البلد حتى في سبب تسميته بهذا الاسم، فيوجد رأي يقول: إن كلمة "البرازيل "ترجع لكلمة "براسيل" نسبة لنوع من الأشجار كانوا يستخرجون منه الصبغة الحمراء، وأخرى "هي برازيل" Hy Brasil والتي تعني أرض العظمة والقوة والجمال، وثالثة ترجع لكلمة "Bress" بريس وتعني المبارك بلغة شعوب غرب أوربا. والمتعارف عليه في معظم المصادر التاريخية هو الرأي الأول.
تختلف الروايات حول أول اتصال للمسلمين بالبرازيل، فيذهب بعض المؤرخين إلى احتمالية وصولهم إلى أرض البرازيل قبل اكتشافها عن طريق بعض القوارب؛ نظرًا لتقدمهم في علوم البحار، ويستدلون على ذلك ببعض الكتابات والنقوش العربية التي وجدت محفورة على بعض الأحجار في مدينة "ريو دي جانيرو" وغيرها من سواحل البرازيل وأمريكا اللاتينية عمومًا، وكذلك بعض الروايات في الكتب التاريخية لعلماء المسلمين الذين اهتموا بعلوم الجغرافيا، ولكن هذه الروايات تحتاج لمزيد من البحث والتحقيق العلمي الدقيق.
وتذهب الروايات الأخرى إلى أن مكتشفي أمريكا والبرازيل اصطحبوا معهم بعض المرشدين المسلمين المتمرسين في علوم البحار، هؤلاء المرشدون تظاهروا بالنصرانية للهروب من محاكم التفتيش في إسبانيا "الموريسكيين"، وحال وصلوهم إلى البرازيل بدءوا في إظهار بعض الشعائر الإسلامية، ولم يلبثوا كثيرًا حتى تم اكتشاف أمرهم وأقيمت لهم محاكم تفتيش من قبل البرتغاليين في مدينة باهية 1594م، وتم تحديد بعض المواصفات التي تبين من هو مسلم سرًّا ونصراني جهرًا، مثل" الاغتسال والاستيقاظ المبكر والصيام ونظافة الملابس"[1].
وذهب إلى هذا الرأي الدكتور علي الكتاني رحمه الله، وهو الخبير بشئون الأقليات المسلمة في العالم، يقول: "عندما قام البرتغاليون بغزو البرازيل، منعوا المسلمين من الهجرة إلى هناك، غير أن هذا المنع لم يحل دون وصول العديد من الموريسكيين الذين كانوا من الكثرة، بحيث أشهروا في القرن السادس عشر إسلامهم، وقد أعلنت محكمة باهية بسبب ذلك بدء العمل بمحاكم التفتيش الكاثوليكية منذ عام 1594م، هذه المحاكم نفذت ضدهم أحكامًا دموية تمثلت في إعدام أو إحراق أو استعباد الآلاف منهم"[2].
كانت خبرة المستعمر البرتغالي قليلة في مجال استصلاح الأراضي، ولديهم مساحات شاسعة من أرض البرازيل البكر التي تم اكتشافها، فبدءوا عملية استجلاب العبيد من إفريقيا عام 1538م، وبعد 40 عامًا كان قد تم استجلاب 14 ألف عبد، ثم 600 ألف من أنجولا، وخصوصًا من قبائل "داهوتي - الهوسا - أشانتي - الفولاني ".
إن البحث يقودنا للتعرف على أوضاع المسلمين في إفريقيا بدايات القرن السادس عشر، وهي الفترة التي تم فيها بيع هذه الأعداد الهائلة من الأفارقة، والتي تقدر بالملايين "فقط من دولة بنين ثلاثة ملايين تم بيعهم خلال القرن السابع عشر"[3].
كانت إفريقيا في ذلك الوقت لا تزال تنعم بآثار الممالك الإسلامية القوية، وما كان لديها من حضارات زاهرة، وعلوم مقدمة، في مجالات الزراعة، والعمارة، والثقافة والفنون، والصناعات المختلفة، ولقد تأثر هؤلاء العبيد -بلا شك- بتلك الثقافات المتعددة، والعلوم المزدهرة، وكانت سببًا لترك بصمتهم الواضحة في بناء حضارة الدولة البرازيلية الجديدة.
تعتبر الفترة من 1000 إلى 1500 للميلاد العصر الذهبي بالنسبة لتطور منطقة غرب إفريقيا، حيث فترة توسع وازدهار تجاري بين المدن والدول والإمبراطوريات وفي جنوب شرق السودان كانت دول الهوسا وإمبراطورية كانيم - بورنو من أهم الكيانات السياسية في تلك المنطقة.
لقد تم انتزاع هؤلاء العبيد قسرًا من أرضهم، وعوملوا معاملة غير آدمية، وسيقوا إلى بلاد بعيدة ومجهولة لهم، ومات منهم الكثير أثناء عملية النقل الوحشية، ومن وصل منهم إلى أرض البرازيل أرغم على التنصُّر، وعاش في ظروف غير آدمية[4].
يقول عياش دراجي: "مائة وخمسون كيلو مترًا طول طريق العبيد في بنين لم يبق منها سوى أربعة كيلو مترًا، ولكن لا بد من التوقف عند الشجرة المقدسة التي تُسمى "شجرة النسيان"، إذ يقوم الرجال من العبيد بالطواف حولها تسع مرات والنساء سبع مرات، وتلك الطقوس الوثنية كان الهدف منها حمل العبد على نسيان الماضي وغسل الذاكرة، ثم ينتقل العبيد إلى المحطة الثالثة ليتم حبسهم في ركن خاص إلى أن تصل السفن وقد يدوم الانتظار أربعة أشهر، يحبسون في ركن زوماي، أي المكان الموحش الذي لا نار ولا نور فيه، يُقسَّمون إلى أفواج في زنزانات مظلمة لتعويدهم على الصبر في عنابر السفن الضيقة"[5].
حينما وصل هؤلاء العبيد إلى أرض البرازيل تم تعميدهم، ولكنهم ظلوا محافظين على إسلامهم، يمارسون شعائرهم الإسلامية خفية، ويحفظون صفحات من القرآن، وكان بينهم علماء ومشايخ، ظلوا يوجهونهم للتمسك بدينهم، وقد أقاموا داخل أكواخهم حِلَق القرآن، ومجالس العلم، وكان نتيجة هذا التمسك القوي بالإسلام أن سمح لهم أسيادهم البرتغاليون بهامش من الحرية الدينية.
وتذكر بعض الكتب التاريخية أن هؤلاء العبيد كانوا أسرى ملك داهومي الوثني، أسرهم في حروبه مع الدول الإسلامية وباعهم للبرتغاليين، وصادف أن كان من بين هؤلاء علماء في الدين، فنجحوا في الحفاظ على علمهم وأسسوا جاليات إسلامية قوية ومنظمة من المستعبدين في ولايات "باهية - وريو دي جانيرو - وسان لويس دو مرانيون"، ونجحوا في إدخال كثير من العبيد الآخرين في الإسلام، وكانت لهم المدارس الإسلامية والمساجد وشيء من الحرية الدينية، وكان يسميهم البرتغاليون بالمعلمين"[6].
يتفق المؤرخ "نينا رودريجيز" مع هذا القول ويوضح ذلك في مقال له تحت عنوان (المسلمون الزنوج في البرازيل)، اعتمد فيه على أرشيفات الشرطة ومراسلات حكام الولايات، وتصريحات المتهمين المتورطين في التمرد الذي قام به الزنوج المسلمون ضد نظام الرق الذي كان وراء تهجيرهم إلى البرازيل"[7]. ولقد زار هذا المؤرخ بعض أئمة الزنوج بمدينتي باهية وريو دي جانيرو، وتحدث عن أنشطتهم ولباسهم ومبررات تمردهم وعلاقتهم ببقية الزنوج غير المسلمين"[8].
ويؤكد الباحث الإيثنوغرافي الفرنسي "روجيه باستيد" أن المسلمين الزنوج كانت لهم مساجد في الأغواس، وبرنامبوكو وباهية[9].
كل هذه الدراسات تؤكد وتصف الإسلام بأنه الديانة التي تبعث على عزة النفس وتقاوم كل محاولات التمسيح (التنصير)، كما تصف الذين يدينون بها في البرازيل بـ "أناس متسامحين ثائرين لهم عزة نفس"[10].
[1] المسلمون في أوربا وأمريكا ص251.
[2] المصدر السابق ص35.
[3] المصدر موقع foxnews.
[4] توجد وثيقة مهمة جدًّا لواحد من هؤلاء العبيد اسمه "محمد واقواقوا" وقد تم أسره من بنين، وسيق إلى البرازيل ثم نال حريته حينما ذهب لأمريكا على ظهر سفينة، وكان يجيد الكتابة، فقام بكتابة مذكراته بمساعدة أحد الأمريكان "صمويل مور" عام 1854م.
[5] موقع الجزيرة.
[6] المسلمون في أوربا وأمريكا ص251.
[7] Jornal de Janeiro 2/11/1900.
[8] الجاليات العربية في أمريكا اللاتينية ص207.
[9] المصدر السابق.
[10] المصدر السابق.
فى ذكرى استشهادالإمام البنا : الرجل الذي أحيا فكرته بموته!!
كتبت تحت قسم
عن الإخوان والبنا
|
الجمعة، 11 فبراير 2011|
درعمى
مدونة ورود الحق ـ موقع إخوان أون لاين
كتبها / د. ممدوح المنير
كان فيه من الساسة دهاؤهم، ومن القادة قوتهم، ومن العلماء حججهم، ومن الصوفية إيمانهم، ومن الرياضيين حماسهم، ومن الفلاسفة مقاييسهم، ومن الخطباء لباقتهم، ومن الكتاب رسالتهم، وكان كل جانب من هذه الجوانب يبرز كطابعٍ خاص في الوقت المناسب) "روبير جاكسون".
ونحن نحتفل بذكرى استشهاد الإمام حسن البنا (12 فبراير) كان لا بد من كشف حساب، ومراجعة لفكر هذا الرجل الذي يمثل في حياته ومماته قيمةً من النادر أن تتكرر في التاريخ.
أزعم أن المساحة تضيق عن الإحاطة بهذا العنوان الكبير، ولكن حسبنا أن نومض ومضات سريعة عن الرجل وأتباعه، نعرف من خلالها أين نقف من هذا المشروع الذي تجاوز حدود الزمان والمكان، ليملأ كذلك القلوب والعقول.
أحب أن أشير بداهةً واحترامًا مني لعقلية القارئ أنني لا أستطيع، وأنا أكتب عن هذا الرجل العظيم أن أكون محايدًا، حقيقة ينبغي أن يعيها القارئ جيدًا، وأزعم أنني لستُ وحدي كذلك.
لا شك أن الرجل كان متميزًا غاية التميز في شخصيته وأنا لا أتحدث عن إعجاب أتباعه من أبناء حركة الإخوان المسلمين، ولكنه إعجاب كل صاحب فكرة، ورسالة ومنهج أين كان اتجاهه أو مشروعه فهو نموذج بالغة الروعة لكل صاحب قضية عادلة يناضل من أجلها، وتزداد الروعة ويعلو بريقها إذا كان هذا المشروع إسلامي الأساس، رباني التوجه، يتصالح مع الواقع ولا يتصادم معه، يستوعب الأحداث، ولا تستوعبه، يؤثر فيها أكثر مما تُؤثر هي فيه.
الرجل الكاريزما
أعتقد أن أحد الصفات الأساسية والحيوية التي يحتاجها أي زعيمٍ سياسي أو مصلح اجتماعي في عصرنا هي صفة الكاريزما تلك الصفة الآثرة التي يستطيع بها الرجل أن يملك العقول والقلوب ويوجهها الوجه الصحيحة بدونها سنظل نتحرك بسرعة السلحفاة في المشروع الإصلاحي، وأنا هنا لا أتفق مع الذي يربطون وجود هذه الصفة بتاريخٍ نضالي طويل، وعريض لصاحب هذه الصفة، وإن كنت لا أنكر أهميتها ولكن حسن البنا في طريقه للقلوب، والعقول لم يكن يملك هذا التاريخ لسبب بسيط أنه كان يصنعه حينها!!.
ولكن أزعم أن خمس صفات توافرت فيه شكلت الكاريزما الخاصة به أعتقد أنها كانت كافية لتفيض على غيرها من الصفات (إخلاص عميق لفكرته، استيعاب كامل للبيئة التي يعيش فيها، تضحية بلا حدود، ضبط عالٍ لإيقاع الأحداث وحسن التعامل معها، فهم عميق لطبائع النفس البشرية مع معرفة لغة الخطاب المناسبة لكل فئة مما يسهل قيادتها وتوجيهها).
المشروع السياسي لحسن البنا
من الممكن تقسيم المشروع السياسي لحسن البنا إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية:
أولاً- معركة التحرر الوطني ضد الاحتلال الإنجليزي لمصر ابتداءً من الدعم المعنوي والمادي والاحتضان لكافة حركات التحرر الوطني في العالم الإسلامي وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وانتهاءً بتكوين النظام الخاص الذي كانت مهمته القيام بالعمليات الفدائية ضد المصالح البريطانية في مصر إلى المشاركة بحرب فلسطين، وإذا تتبعنا هذا المسار نجد أنه حتى بعد وفاة المؤسس ظل هذا النهج الجهادي المسلح متصلاً ومستمرًا في الفكر الإخواني في كافة الدول العربية والإسلامية الواقعة تحت الاحتلال فقط لا غير مثل (أفغانستان- الشيشان- فلسطين- لبنان- العراق)، وغيرهم مما لا يتسع المقام لذكره يبين مدى أهمية هذا العنصر في المشروع السياسي للجماعة.
ثانيًا- كان الاتجاه الثاني أو محور الحركة لدى (البنا- الجماعة) هو النضال السلمي أو المعارضة السياسية ضد الأنظمة الحاكمة، ومطالبتها الدءوبة والمستمرة بالحكم بالشريعة الإسلامية والتي هي لب المشروع السياسي للإخوان وعندما نقرأ للبنا (أستطيع أن أجهر صراحةً بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيًّا بعيد النظر في شئون أمته، مهتمًا بها غيورًا عليها.. وأعتقد أن على كل جمعية إسلامية أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشئون أمتها السياسية، وإلا كانت هي نفسها تحتاج إلى أن تفهم الإسلام".
بهذا الكلمات الواضحة والقاطعة حدد حسن البنا موقع المعارضة السياسية السلمية من فكرته، ومشروعه الإصلاحي للأمة؛ ولكن لماذا كان هذا الاهتمام البالغ بهذا المحور في مشروعه؟
أعتقد أن سقوط الخلافة الإسلامية كان بمثابة الحجر الضخم الذي حرَّك الماء الراكد في النفوس، والشعور، وكان يوم السقوط هو نفسه يوم الميلاد لهذه الفكرة التي ما زالت لاعبًا رئيسيًّا على الساحة العربية والدولية (الإخوان المسلمون) كان حلم المؤسس وقتها يتجاوز قدرات الفهم والاستيعاب حينها، وأعتقد ونحن نحتفل بذكرى استشهاده أنها لا تزال كذلك!.
فالحديث حول عودة الخلافة الإسلامية، وأستاذية العالم ما زال محل دهشة واستغراب واستنكار لدى الكثيرين ولكن على أرض الواقع هل تبتعد الجماعة أم تقترب من تحقيق حلم مؤسسها، والذي أصبح فيما بعد فكرة أساسية في مشروعها الحضاري؟.
مما لا شك فيه أن الطموح السياسي للإخوان تعرض لكثير من التحديات والعقبات لأنه كان طبيعيًّا أن تقف الدول الغربية في طريقه فلم يكن سهلاً عليها أن تجد من يتحدث من جديد عن عودة الخلافة بعد أن استراحوا منها بعد جهد جهيد منهم ومنا للأسف! لذلك عندما رشَّح حسن البنا نفسه في الانتخابات النيابية كانت الضغوط الهائلة من الغرب على القصر وقتها لوقف هذا التقدم ولا يزال!.
وطبعًا لم تكن الدول الغربية وحدها بل كافة الأنظمة العربية الحاكمة وإلى الآن اعتبرت الإخوان المسلمين يمثلون تهديدًا مباشرًا لوجودهم فاستخدمت تلك الأنظمة كافة الوسائل لكبح جماح الإخوان بدءًا من الحل إلى التضييق إلى التشويه إلى السجن إلى التعذيب إلى القتل إلى الضرب بالصواريخ من أجل الإبادة- أحداث حماة في سوريا- وما حدث في الحقبة الناصرية والساداتية والمباركية ليس منا ببعيد! ولكن بعد مرور عشرات السنين على هذه الحادثة- ترشح البنا- عندما ننظر الآن على أرض الواقع نجد أن الإخوان تجاوزا هذه المرحلة، أو المراحل أو بمعنى أدق كان الاكتساح النسبي لمعظم المجالس النيابية في الوطن العربي بل العالم الإسلامي من الإخوان المسلمين خاصة والإسلاميين عامة.
ثم كانت مفاجآت العيار الثقيل عندما شكَّل الإسلاميون في تركيا العلمانية الحكومة- رغم التحفظ على أدائها في بعض المواقف- إلى المفاجأة الكبرى بتشكيل الحكومة الفلسطينية من قبل حركة حماس الإخوانية الجذور، فهل اقترب الإخوان من تحقيق الحلم أم ستنجح الضغوط في وقف المد الإخواني؟ أعتقد أن مَن يجيب عن هذا العنوان هي الفيزياء! التي تعلمنا أن الضغط يزيد من تقارب الجزيئات، وكلما زاد الضغط زاد التقارب حتى يصل الضغط إلى نقطة اللاعودة وعندها يحدث الانفجار والذي يكون في عكس اتجاه الضغط، ومن حسن حظنا أن هذه حقيقة علمية، وليست نظرية قابلة للتغيير.
ثالثًا- الاتجاه الثالث في المشروع السياسي للإخوان هو التحرك في وسط المجتمع ومحاولة توعيته دينيًّا أو كما يقول الإخوان في أدبياتهم إيقاظ الإيمان المخدر، بحيث تكون المحصلة النهائية أن الشعوب هي نفسها التي تشتاق للفكرة الإسلامية، وتطالب بعودتها إلى موقع الصدارة في حياتها وتترجم الإسلام إلى سلوكٍ عملي في حياتها.
وإذا تتبعنا هذا المحور تاريخيًّا نجد أن الإخوان قد حققوا فيه نجاحات باهرة، وقدموا الكثير من العلماء والدعاة الذين أخذوا على عاتقهم القيام بهذا الدور سواء المنتمين تنظيميًّا للجماعة أو المتعاطفين فكريًّا معها منهم الشيوخ والعلماء محمد الغزالي، سيد سابق، سيد قطب، يوسف القرضاوي، عبد القادر عودة، محمد قطب، محمد عمارة؛ عمرو خالد، كشك؛ زغلول النجار، فيصل مولوي؛ وغيرهم الكثير في كافة أنحاء العالم الإسلامي؛ لذا نجد أن الصحوة الإسلامية الحالية أصبحت هي الأصل، وغيرها هو الاستثناء، كذلك حاول الإخوان تغيير أنماط الحياة لتتلاءم مع مشروعهم الإصلاحي الإسلامي فساهموا في إنشاء البنوك والمصارف الإسلامية والتي أصبحت تكسب كل يوم أرضًا جديدةً.
كذلك في الفن أنشأوا الفرق والمسارح الإسلامية والروايات الإسلامية وغيرها من كافة أنماط الحياة، وهكذا يستطيع المرء أن يقول إن الإخوان المسلمين تحركوا في المسارات الثلاثة في توازن شديد مما يجعلنا نطمع أن حلم هذا الرجل العظيم ربما نفاجأ ذات يوم أنه أصبح حقيقةً واقعةً وليس أضغاث أحلام، اللهم آمين.
الأكثر مشاهدة
المشاركات الشائعة
-
موقع الإخوان المسلميبن ـ ورود الحق بقلم: د. عماد عجوة القيروان.. مدينة تونسية تقع على بُعد 156 كم من العاصمة تونس، وعلى بُعد 57 كم من مدين...
-
أولا: مفهوم الثبات والمرونة : تنقسم أحكام الشريعة الإسلامية على قسمين : ا لأول : أحكام ثابتة : وهذه لا سبيل إلى البحث فيها ، ولا تقبل الت...
-
موقع قصة الإسلام ـ مدونة ورود الحق أما النصف الأوَّل من القرن الرابع الهجري والنصف الأوَّل من القرن العاشر الميلادي فيمثِّله أبو الحسن عل...
-
مدونة ورود الحق ـ الإسلام اليوم هانئ رسلان تعيشُ الخُرطوم هذه الأيام أجواءًا من الترقُّب المشوب بالقلق؛ بسبب...
-
مدونة ورود الحق ـ موقع إخوان أون لاين بقلم: د. كامل عبد الفتاح باحث في تاريخ مصر الحديث والمعاصر في التاسع والعشرين من أغسطس من كل عام تحل...
-
حذر الدكتور محمود حمدي زقزوق، وزير الأوقاف، أئمة الوزارة من التطرق إلى الموضوعات السياسية في الدروس الرمضانية التي سيلقونها بمساجد الجمهور...
-
موقع قصة الإسلام ـ ورود الحق فلسطين أرض الرسل والأنبياء الذين حملوا راية التوحيد، ودعوا أقوامهم إلى الالتزام بها. وقد شهدت فلسطين ف...
-
مدونة ورود الحق هؤلاء هم القادة الذين نريدهم هؤلاءالله سيرفع درجاتهم إن شاء الله ويسكنهم جنات النعيم ذلك بما يعملون الآن لأمتهم من تضحيات و...
-
د: منير جمعة عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين :- دول الغرب المسيحي تحتفي بكل الخارجين عن الإسلام وتلبسهم ألقابا رنانة . الرئيس بوش استقبل...
-
ورود الحق ـ قصة الإسلام : روجر بواس يلقي روجر بواس[1] في مقاله هذا نظرة على النموذج الإسباني للتطهير العرقي والديني. لكل شيء إذا ما تم نقصان...
يتم التشغيل بواسطة Blogger.
أحدث موضوع
المدونة على الفيس بوك
أقسام مهمة
التسميات
- أزمات الأمة (38)
- الخلافة الأموية (1)
- الدولة العثمانية الجزء الثانى (12)
- الدولة العثمانية الجزء الرابع (3)
- الدولة العثمانية الجزء الأول (8)
- الدولة العثمانية الجزء الثالث (10)
- السودان وأزمة الانفصال (10)
- الشيشان جرح ينزف (7)
- النصرانية ما بين التعريف والتحريف الجزء الأول (1)
- تاريخ الأندلس (1)
- تاريخ أمة (42)
- تاريخ حماس والدفاع عنه (1)
- تاريخ فلسطين (2)
- تحليلات هامة (11)
- تربية الأطفال (1)
- تركستان جرح ينزف (8)
- حدث فى مثل هذا (2)
- دروس فى الفقه (1)
- شخصيات إسلامية (2)
- شخصيات أسلموا (2)
- صحابة الرسول (1)
- عجائب التكنولوجيا (1)
- على الصلابى (1)
- عن الإخوان والبنا (4)
- غرائب من الحياة (1)
- غزة بين النار والحصار (7)
- فتاوى اقتصادية (1)
- فتاوى الدكتور منير جمعة (5)
- فتاوى عامة (6)
- فقه السنة (3)
- فلسطين (9)
- فيديو مؤثر (4)
- قالوا عن الإسلام (3)
- قصص من روائع حضارتنا (23)
- كتاب الكبائر للإمام شيخ الإسلام الذهبى (4)
- كشمير جرح ينزف (7)
- كوسوفا جرح ينزف (5)
- مساجد لها تاريخ (1)
- مقالات الأستاذ ثامر عبد الغني سباعنه (1)
- مقالات الدكتور منير جمعة (17)
- مقالات المشرف (13)
- مقالات رمضانية (1)
- مواعظ الإمام ابن الجوزى (16)
- نقاشات (1)
بحث
بحث هذه المدونة الإلكترونية
Categories
المتابعون
فيديو الأسبوع
أحدث التعليقات
أحدث المقالات