الصفحة الرئيسية » Archives for سبتمبر 2002
أعياد المسلمين وترسيخ معنى التكافل!!
كتبت تحت قسم |
السبت، 14 سبتمبر 2002|
درعمى
د. راغب السرجاني
يحرص الإسلام على بناء مجتمعٍ قويٍّ قادرٍ على مواجهة التحدِّيات والأزمات المختلفة، مجتمع حضاري راقٍ، يرحم القويُّ فيه الضعيفَ، ويعطف الغنيُّ على الفقير، ويعطي القادرُ ذا الحاجة. كما يحرص على بناءِ مجتمعٍ أخلاقيٍّ متقاربٍ ومتحابٍّ ومتعاونٍ على الخير وفعل المعروف، ومن ثَمَّ جَاءَ بمنهجٍ رائع في بناء المجتمع البشريِّ كُلِّه، وجَعْل كل فرد فيه متعاونًا مع غيره على الخير العام، مُغِيثًا له حال الحاجة والاضطرار.
إن قيمة التكافل بين الناس، وخُلُقَ إغاثة الملهوف من الأمور التي لا يقوم المجتمع المسلم إلا بها، إنها قيم إنسانية اجتماعية راقية، وقد سبق الإسلام في تطبيقها على أرض الواقع سبقًا بعيدًا، فكانت النماذج الرائعة في الصدر الأول من الإسلام خير مُعَبِّرٍ عن هذا الخُلُق الكريم. ولقد سلك التشريع الإسلاميُّ لتشجيع المسلمين على التمسُّك بذلك الخُلُق طُرُقًا متنوعة، واتَّخذ وسائل متعددة؛ ذلك لأنه دين عمليٌّ يربط الفكرة بالعمل، كما يربط أيضًا النظرية بالتطبيق، وليس مجرَّد خيال يداعب أحلام المصلحين. ومن ثَمَّ كانت هذه الوسائل التي اعتمدها الإسلام في ترسيخ هذا المعنى ابتداءً في أذهان المسلمين، ولذلك أيضًا جاءت النصوص متوافرة، تؤكِّد هذا المعنى وتعضِّده.
كما كانت أخلاق رسول الله تطبيقًا عمليًّا للعمل التكافليِّ والإغاثيِّ، ومن هذه الوسائل ربط الإنفاق في سبيل الله بأعياد المسلمين، وذلك في عيدي الفطر والأضحى، وهما عيدان عظيمان للمسلمين يأتيان بعد عبادات عظيمة أيضًا؛ فعيد الفطر يأتي بعد شهر رمضان المعظم وأداء فريضة الصيام، وعيد الأضحى يأتي في نهاية العشر الأوائل من ذي الحجة مع كل ما فيها من أعمال الخير، وخاصة لأولئك الذين يؤدون شعيرة الحج؛ فيأتي الحث على الإنفاق في هذه الأعياد كنوع من الشكر على أداء هذه العبادات العظيمة، وخاصةً أن نفوس المسلمين تكون قد هُذِّبت في هذه الأيام الفاضلة، فيسهل عليها الإنفاق والعطاء.
ولا يكتفي التشريع الإسلامي بالحض على الإنفاق بصورة مطلقة هكذا، ولكن يقننه في صور محددة تجعل المسلم حريصًا كل الحرص على أدائها، وبذلك لا يضيع حق الفقراء في المجتمع، ولا يتسرب الغل والحسد إلى قلوبهم. وهذا -لا شك- ينعكس على سعادة وأمن واستقرار المجتمع؛ ففي عيد الفطر يفرض الله على المسلمين أن يدفعوا زكاة الفطر للفقراء والمساكين، فيقول ابن عباس رضي الله عنهما: "فرض رسول الله زكاة الفطر؛ طُهْرَةً للصائم من اللغو والرفث، وطُعْمَةً للمساكين، مَنْ أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات". وقد فرضها الشرع على كل المسلمين المالكين لما يزيد عن قُوتِهِم وقوت أولادهم يومًا وليلة؛ وهذا يعني أنّ جلّ المسلمين يستطيع أداءها، وبذلك يشترك المجتمع المسلم كله في عملية العطاء هذه، ويظللهم فيها كلام الرسول الذي يرقِّق قلوبهم ويحثهم على الإنفاق؛ حيث يقول: "أغنوهم في هذا اليوم"، يقصد الفقراء. ويقول أيضًا: "أغنوهم عن طواف هذا اليوم"، أي عن البحث عن الصدقة والعطايا.
أما في عيد الأضحى فإنه يُسَنُّ لهم سُنّة الأُضحية، وتُعَدُّ الأضاحي أحد موارد التكافل الاجتماعي؛ حيث يتمُّ التوزيع منها على الفقراء والمساكين، والتوسعة عليهم وإدخال السرور على قلوبهم بإطعامهم من لحومها في يوم العيد، قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]. وعن أبي جعفر الطبري، عن الربيع قال: "إذا صلَّيْت يوم الأضحى فانحر"[1]. وحثَّ النبي في أحاديثه على الأضحية، فبيَّن فضلها وثوابها العظيم عند الله؛ فعن عائشة بنت أبي بكر -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، إِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلاَفِهَا، وَأَنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا"[2].
ثم قدَّم القدوة والمثل للمسلمين وضحَّى بكبشين أملحين أقرنين؛ واحد عن نفسه، والآخر عن أُمَّتِه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْن أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا"[3].
فمن عظمة الشريعة أنها حثَّت على الأضحية في هذا اليوم، فهذا يوم عيد لدى المسلمين، ولا يجب أن يَشعر الفقير فيه بالحاجة والعَوَز؛ لذلك كان توزيعها يحمل في جوهره تكافلاً تفيد منه الجماعة ماديًّا وخُلُقيًّا؛ فعن ابن عباس أن النبي قال في الأضحية: "... وَيُطْعِمُ أَهْلَ بَيْتِهِ الثُّلُثَ، وَيُطْعِمُ فُقَرَاءَ جِيرَانِهِ الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى السُّؤَّالِ بِثُلُثٍ"[4].
وذلك ليتحرَّى المسلم في احتفاله بالعيد عن ذوي الحاجة والبائسين من أقاربه أو مواطنيه، فينضح عليهم من معين برِّه، ويخفِّف عنهم ألم حرمانهم، ويُشرِكهم في فرحة العيد ومناسبته السعيدة، وبذلك أيضًا يَشعر الفقراء أنهم من الجماعة، لهم عليها أن تتذكَّرهم وترعاهم، فيُجدِّد الفقراء حبَّهم للأغنياء، وثقتهم بهم، والتفافهم حولهم، كما يُجدِّد الأغنياء وفاءهم وودادهم لأحبائهم وأقاربهم المحتاجين.
والأضحية بهذا ثمثِّل رافدًا قويًّا من روافد التكافل الاجتماعي، وتَزيد من أواصر التقارب والتآلف بين أفراد المجتمع المسلم.
وهكذا ربط الإسلام أعياد المسلمين بتقوية العلاقة بين أفراد الأمة، وإبراز روح التكافل والتعاون، وما أسعد مجتمعًا عاش بهذه القيم! وما أعظم جزاءه عند الله .
د. راغب السرجاني
[1] تفسير الطبري 24/ 653.
[2] أخرجه الترمذي (1493)، والبيهقي (18794).
[3] أخرجه البخاري (5244)، ومسلم (1966).
[4] ابن قدامة: المغني 11/ 109.
الأكثر مشاهدة
المشاركات الشائعة
-
موقع الإخوان المسلميبن ـ ورود الحق بقلم: د. عماد عجوة القيروان.. مدينة تونسية تقع على بُعد 156 كم من العاصمة تونس، وعلى بُعد 57 كم من مدين...
-
أولا: مفهوم الثبات والمرونة : تنقسم أحكام الشريعة الإسلامية على قسمين : ا لأول : أحكام ثابتة : وهذه لا سبيل إلى البحث فيها ، ولا تقبل الت...
-
موقع قصة الإسلام ـ مدونة ورود الحق أما النصف الأوَّل من القرن الرابع الهجري والنصف الأوَّل من القرن العاشر الميلادي فيمثِّله أبو الحسن عل...
-
مدونة ورود الحق ـ الإسلام اليوم هانئ رسلان تعيشُ الخُرطوم هذه الأيام أجواءًا من الترقُّب المشوب بالقلق؛ بسبب...
-
مدونة ورود الحق ـ موقع إخوان أون لاين بقلم: د. كامل عبد الفتاح باحث في تاريخ مصر الحديث والمعاصر في التاسع والعشرين من أغسطس من كل عام تحل...
-
حذر الدكتور محمود حمدي زقزوق، وزير الأوقاف، أئمة الوزارة من التطرق إلى الموضوعات السياسية في الدروس الرمضانية التي سيلقونها بمساجد الجمهور...
-
موقع قصة الإسلام ـ ورود الحق فلسطين أرض الرسل والأنبياء الذين حملوا راية التوحيد، ودعوا أقوامهم إلى الالتزام بها. وقد شهدت فلسطين ف...
-
مدونة ورود الحق هؤلاء هم القادة الذين نريدهم هؤلاءالله سيرفع درجاتهم إن شاء الله ويسكنهم جنات النعيم ذلك بما يعملون الآن لأمتهم من تضحيات و...
-
د: منير جمعة عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين :- دول الغرب المسيحي تحتفي بكل الخارجين عن الإسلام وتلبسهم ألقابا رنانة . الرئيس بوش استقبل...
-
ورود الحق ـ قصة الإسلام : روجر بواس يلقي روجر بواس[1] في مقاله هذا نظرة على النموذج الإسباني للتطهير العرقي والديني. لكل شيء إذا ما تم نقصان...
يتم التشغيل بواسطة Blogger.
أحدث موضوع
المدونة على الفيس بوك
أقسام مهمة
التسميات
- أزمات الأمة (38)
- الخلافة الأموية (1)
- الدولة العثمانية الجزء الثانى (12)
- الدولة العثمانية الجزء الرابع (3)
- الدولة العثمانية الجزء الأول (8)
- الدولة العثمانية الجزء الثالث (10)
- السودان وأزمة الانفصال (10)
- الشيشان جرح ينزف (7)
- النصرانية ما بين التعريف والتحريف الجزء الأول (1)
- تاريخ الأندلس (1)
- تاريخ أمة (42)
- تاريخ حماس والدفاع عنه (1)
- تاريخ فلسطين (2)
- تحليلات هامة (11)
- تربية الأطفال (1)
- تركستان جرح ينزف (8)
- حدث فى مثل هذا (2)
- دروس فى الفقه (1)
- شخصيات إسلامية (2)
- شخصيات أسلموا (2)
- صحابة الرسول (1)
- عجائب التكنولوجيا (1)
- على الصلابى (1)
- عن الإخوان والبنا (4)
- غرائب من الحياة (1)
- غزة بين النار والحصار (7)
- فتاوى اقتصادية (1)
- فتاوى الدكتور منير جمعة (5)
- فتاوى عامة (6)
- فقه السنة (3)
- فلسطين (9)
- فيديو مؤثر (4)
- قالوا عن الإسلام (3)
- قصص من روائع حضارتنا (23)
- كتاب الكبائر للإمام شيخ الإسلام الذهبى (4)
- كشمير جرح ينزف (7)
- كوسوفا جرح ينزف (5)
- مساجد لها تاريخ (1)
- مقالات الأستاذ ثامر عبد الغني سباعنه (1)
- مقالات الدكتور منير جمعة (17)
- مقالات المشرف (13)
- مقالات رمضانية (1)
- مواعظ الإمام ابن الجوزى (16)
- نقاشات (1)
بحث
بحث هذه المدونة الإلكترونية
Categories
المتابعون
فيديو الأسبوع
أحدث التعليقات
أحدث المقالات