الصفحة الرئيسية » مقالات الدكتور منير جمعة »
من خصائص الشريعة الإسلامية : الجمع بين الثبات والمرونة بقلم / الدكتور منير جمعة
تنقسم أحكام الشريعة الإسلامية على قسمين :
الأول : أحكام ثابتة : وهذه لا سبيل إلى البحث فيها ، ولا تقبل التجدد أو التطور ،وهي المسائل التي وردت فيها نصوص قطعية في ثبوتها وفي دلالتها ، وبالتالي فهي لا مجال فيها للاجتهاد ، ولا تتغير بتغير الزمان والمكان فقد جاء عن أبي الدرداء- رضي الله عنه – أنه قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :" ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نسيا ثم تلا هذه الآية " وما كان ربك نسيا" ( رواه الحاكم في مستدركه ) ، وهذا النوع يطلق عليه اسم ، الثوابت في الإسلام .
الثاني : أحكام قابلة للاجتهاد والرأي والنظر ، وتشمل جانبين ، الأول : ما استجد من الحوادث ، ولا نص فيها ، فالاجتهاد من خلال القياس والمصالح المرسلة والاستحسان وغيرها من المصادر جائز لاستنباط حكم مناسب فيها .
والجانب الثاني : الأحكام الظنية من حيث ثبوتها أو دلالتها ، فهي قابلة للاجتهاد البشري ، ويسمى هذا النوع باسم : المتغيرات ، أو الأمور القابلة للتجديد والتطور.
ثانيا : الأصول التي ترتكز عليها فكرة الثبات :
1 – ربانية المصدر ، فالمجتمع ليس هو واضع المنهج الإلهي ، كي يخضع ذلك المنهج له ، وينحني لظروفه بل هو صادر عن الله – عز وجل – ووظيفة الإنسان فيه التلقي والاستجابة : " إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم "فذلك يقتضي وجود إطار ثابت يتحرك المجتمع وفقا له .
2 – ثبات الفطرة ، فلما كانت الفطرة : " فطرت الله التي فطر الناس عليها " لا تختلف في جوهرها بين عصر وآخر وأمة وأخرى ، ومهما تطورت الجزئيات والفروع ، فإن ذلك لا يعدو أن يكون تنوعا في شق السبيل إلى الأمور الخمسة التي أناط الله بها سلامة الوضع الإنساني في الدنيا ، وسعادة الأبد في الآخرة ، وهي : الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
3 – ثبات اللغة ، فثبات الإسلام في أصوله العامة يرتبط بثبات اللغة ، حتى يمكن تثبيت المفاهيم والمعاني الأصلية ، دون أن تحدث فجوة بين الأصل اللغوي المستعمل ، وما انتهى إليه في صورته ومعناه ، لأن الحكم يُبنى على تصور صحيح فالمعنى الشرعي للصلاة مثلا ، لا يمكن أن يتغير ، وكذلك الزكاة ، والحج والصوم ، فهذه العبادات لها مفهوم ثابت لا يتغير بمرور الزمن .
ثالثا: مبرر وجود المرونة والتطور في التشريع الإسلامي :
1 – تطور الحياة وتجددها : فالإنسان في حالة بحث دائمة عن أسرار الحياة ، وعن المجهول الذي يتكشف له رويدا ، وقد قال رب العزة " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" فعلى الإنسان ألا يقنع بما عَلِم ، وأن يعتقد أن فوق علمه علما ، وأن يطلب المزيد " وقل ربِ زدني علما "، وقد نص القرآن الكريم على طور الحياة وأسرار الكون : " سنريهم ءآياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق "، وأشار – على سبيل المثال – إلى تطور وسائل النقل بقوله سبحانه " الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون "
2 – عالمية الإسلام ، فقد جاء الإسلام لكافة الأمم والشعوب ، فكان لابد أن يكون قادرا على مواكبة حاجات هذه الشعوب، ومسايرا للحضارات التي تعيش في ظلها، وتحقيق مصالحها المشروعة التي تتطور وتجدد في كل عصر ،وفي كل مصر ،وسن التشريعات المناسبة والملائمة لكل مجتمع بالاستعانة بذوي الخبرة العملية .
رابعا : مجالات الثبات في التشريع الإسلامي:
1 – الأصول والقواعد والمبادئ العامة والسنن الثابتة ، والنظريات الأساسية .
فالأصول تشمل العقائد ، من مثل أركان الإيمان الستة ، وحقيقة أن العقيدة الصحيحة بأركانها كلها شرط لصحة الأعمال وقبولها عند الله ، وحقيقة أن الدين عند الله الإسلام، وحقيقة أن الرابطة المقبولة للتجمع البشري هي العقيدة لا الأرض أو الجنس أو اللون هذه بعض الأصول الثابتة التي لا تتغير ، ولا تزداد مع الأيام إلا رسوخا تمكنا.
وأما القواعد العامة والمبادئ الكلية: فمنها على سبيل المثال قاعدة العدل ، فهي قاعدة ثابتة تحكم العلاقات في البيت والدولة والقضاء وكذلك قادة الشورى ، يجب العمل بها وكذلك قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون وفي تطبيق الأحكام ...إلخ.
وأما السنن الإلهية الثابتة : فمنها على سبيل المثال : سنة التدافع بين الحق والباطل ، كما قال ربُ العالمين :" ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" فهي سنة ثابتة لا تتغير ،ففي كل عصر نجد أن الحق له أهله ، وأن الباطل له حزبه ، والصراع بينهما مستعر، لكن الحق – بإذن الله – صائر إلى بقاء وظهور ، والباطل إلى زوال وضمور.
وأما النظريات الأساسية فمنها مثلا أن نظام الأسرة يرتكن علىالزواج الشرعي لا السفاح ،وأن القوامة للرجل في البيت،وعلى المعاملة بين الزوجين بالمعروف ،وعلى مشروعي الطلاق..إلخ.
وفي النظام الاقتصادي نجد من الثوابت : حرمة الربا وتحريم الكسب الخبيث وفرضية الزكاة ..إلخ.
وفي نظام العقوبات هناك أمور لا تتطور ، كقتل القاتل عمدا ،وقطع يد السارق، فقد رفض النبي – صلى الله عليه وسلم – الشفاعة في الحدود ، قال : لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها "( متفق عليه ) .
وفي نظام الميراث، للذكر مثل حظ الأنثيين وعدم حرمان الأصول والفروع وأحد الزوجين من الميراث مطلقا.
2 – في مجل الأمور التعبدية والقيم الأخلاقية : فالعبادات في الإسلام لا تتطور في شكلها، كهيئة السجود والركوع ،وحقيقة الصوم وقته ، وكيفية الإحرام والطواف ، ومقدار الزكاة ..إلخ.
والأخلاق الأساسية للمجتمع ، من صدق ووفاء وعفة وحياء وإيثار وكذلك الآداب الاجتماعية كالتسمية على الطعام ، وإفشاء السلام ، ومنع الخلوة بالأجنبية ، كلها فضائل لا يستغنى عنها مجتمع كريم .
وبهذا يتضح أن الثبات يمنح البشرية الميزان العدل المستقر الذي يرجع إليه الإنسان في كل ما يعرض له من مشاعر وأفكار وتصورات ، وبالتالي يبقى دائما في دائرة الأمان التي تقيه من التيه والضلال ، وهذا الميزان للمجتمع الإسلامي مبادئ ثابتة يتحاكم عليها هو وحكامه على السواء ليفر من الضنك والشقاء الذي وقعت فيه المجتمعات التي انطلقت من عقال المعتقدات والتصورات الأساسية للكون والحياة ، وراحت تغير تصوراتها ومرجعيتها ، كما تغير أزياءها وفق أهواء بيوت الأزياء :" من " ذلك من ءايات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا" .
إن جانب المرونة في التشريع الإسلامي جعله قادرا على التكيف ومواجهة التطور والملاءمة مع كل وضع جديد بحيث لا يحدث جديد إلا وللإسلام فيه حكم، إما بالنص وإما بالاجتهاد ، وبذا فهولا يضيق بالوقائع المستجدة وحاجات الناس ومصالحهم .
كما أن إقرار المنهج الإسلامي بفكرة التطور والمرونة ، وجمعه بينها وبين الثوابت أفضى إلى أن يقر التناقضات الاجتماعية الموجودة في الحياة ، ويعدها كالسالب والموجب أداة للتعاون والتكامل لا للصراع والاقتتال ويرى أن الحقيقة ذات شقين فهي تتكامل بالتقائهما : الفرد والجماعة ، والمادة والروح ، والعقل ، والقلب، فالإسلام يرى ضرورة وجود هذه المتقابلات التي توصف بأنها متناقضات ويوافق بينها .
أما الفكر الغربي فقد كان إلى ما قبل عصر النهضة يؤمن بالثبات الذي قال به أرسطو، ثم اتخذ من نظرية دارون التي تقول بالتطور البيولوجي منطلقا للتغير الاجتماعي الذي نادى به هربرت سبنسر ومدرسته ، ثم انتقلت الفلسفة الغربية نقلة خطيرة حين أعلن هيجل نظريته في التغير المطلق إلى جوار فكرة التناقض والصراع، وهذه هي الفلسفة المادية التي أصبحت دين المدنية الغربية في العصر الحاضر.
أما المتغيرات في الإسلام فميدانها ما يلي :
1 – الفروع والجزئيات التي تستند إلى دليل ظني ، كالاختلاف في عدد الرضعات التي تثبت بها التحريم ، فجعاه بعضهم واحدة وبعضهم حمسا ، والاختلاف في الطلقات الثلاث هي تقع لفظ واحد أم لا ؟ فإن نظر الفقيه نفسه يمكن يتغير لتغير اجتهاده من مكان لآخر، استمدادا من قاعدة " لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان "
2 – الأساليب والوسائل ، فهدف الأرض يمكن تحقيقه بوسائل شتى، وهذه الوسائل تتطور من عصر إلى عصر حتى أصبحنا في عصر الأقمار الصناعية التي يمكن أن تكشف عن وجود الكنوز في الأرض ، أو المجوهرات في البحر..إلخ.
وحصول الإنسان على الثوابت والأجر له وسائل شتى فمنها : زيارة المريض وتفريج الكربات ، وطلب العلم..إلخ وكذلك تحقيق وتطبيق قاعدة الشورى فهو ليس مقيدا بصورة معينة ، فلا بأس من التجديد بشرط الوصول للشورى فعلا
كتبت تحت قسم
مقالات الدكتور منير جمعة
مواضيع متشابهة:
إذا أعجبتك مدونتى قم بنشرها واشترك بها ليصلك كل جديدها.
الأكثر مشاهدة
المشاركات الشائعة
-
موقع الإخوان المسلميبن ـ ورود الحق بقلم: د. عماد عجوة القيروان.. مدينة تونسية تقع على بُعد 156 كم من العاصمة تونس، وعلى بُعد 57 كم من مدين...
-
أولا: مفهوم الثبات والمرونة : تنقسم أحكام الشريعة الإسلامية على قسمين : ا لأول : أحكام ثابتة : وهذه لا سبيل إلى البحث فيها ، ولا تقبل الت...
-
موقع قصة الإسلام ـ مدونة ورود الحق أما النصف الأوَّل من القرن الرابع الهجري والنصف الأوَّل من القرن العاشر الميلادي فيمثِّله أبو الحسن عل...
-
مدونة ورود الحق ـ الإسلام اليوم هانئ رسلان تعيشُ الخُرطوم هذه الأيام أجواءًا من الترقُّب المشوب بالقلق؛ بسبب...
-
مدونة ورود الحق ـ موقع إخوان أون لاين بقلم: د. كامل عبد الفتاح باحث في تاريخ مصر الحديث والمعاصر في التاسع والعشرين من أغسطس من كل عام تحل...
-
حذر الدكتور محمود حمدي زقزوق، وزير الأوقاف، أئمة الوزارة من التطرق إلى الموضوعات السياسية في الدروس الرمضانية التي سيلقونها بمساجد الجمهور...
-
موقع قصة الإسلام ـ ورود الحق فلسطين أرض الرسل والأنبياء الذين حملوا راية التوحيد، ودعوا أقوامهم إلى الالتزام بها. وقد شهدت فلسطين ف...
-
مدونة ورود الحق هؤلاء هم القادة الذين نريدهم هؤلاءالله سيرفع درجاتهم إن شاء الله ويسكنهم جنات النعيم ذلك بما يعملون الآن لأمتهم من تضحيات و...
-
د: منير جمعة عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين :- دول الغرب المسيحي تحتفي بكل الخارجين عن الإسلام وتلبسهم ألقابا رنانة . الرئيس بوش استقبل...
-
ورود الحق ـ قصة الإسلام : روجر بواس يلقي روجر بواس[1] في مقاله هذا نظرة على النموذج الإسباني للتطهير العرقي والديني. لكل شيء إذا ما تم نقصان...
يتم التشغيل بواسطة Blogger.
أحدث موضوع
المدونة على الفيس بوك
أقسام مهمة
التسميات
- أزمات الأمة (38)
- الخلافة الأموية (1)
- الدولة العثمانية الجزء الثانى (12)
- الدولة العثمانية الجزء الرابع (3)
- الدولة العثمانية الجزء الأول (8)
- الدولة العثمانية الجزء الثالث (10)
- السودان وأزمة الانفصال (10)
- الشيشان جرح ينزف (7)
- النصرانية ما بين التعريف والتحريف الجزء الأول (1)
- تاريخ الأندلس (1)
- تاريخ أمة (42)
- تاريخ حماس والدفاع عنه (1)
- تاريخ فلسطين (2)
- تحليلات هامة (11)
- تربية الأطفال (1)
- تركستان جرح ينزف (8)
- حدث فى مثل هذا (2)
- دروس فى الفقه (1)
- شخصيات إسلامية (2)
- شخصيات أسلموا (2)
- صحابة الرسول (1)
- عجائب التكنولوجيا (1)
- على الصلابى (1)
- عن الإخوان والبنا (4)
- غرائب من الحياة (1)
- غزة بين النار والحصار (7)
- فتاوى اقتصادية (1)
- فتاوى الدكتور منير جمعة (5)
- فتاوى عامة (6)
- فقه السنة (3)
- فلسطين (9)
- فيديو مؤثر (4)
- قالوا عن الإسلام (3)
- قصص من روائع حضارتنا (23)
- كتاب الكبائر للإمام شيخ الإسلام الذهبى (4)
- كشمير جرح ينزف (7)
- كوسوفا جرح ينزف (5)
- مساجد لها تاريخ (1)
- مقالات الأستاذ ثامر عبد الغني سباعنه (1)
- مقالات الدكتور منير جمعة (17)
- مقالات المشرف (13)
- مقالات رمضانية (1)
- مواعظ الإمام ابن الجوزى (16)
- نقاشات (1)
بحث
بحث هذه المدونة الإلكترونية
Categories
المتابعون
فيديو الأسبوع
أحدث التعليقات
أحدث المقالات
Unknown
7 ديسمبر 2019 في 11:28 م
التعليل