أحدث الأخبار
مقالات اليوم

الصمت العربي ومؤامرة تقسيم السودان

الصمت العربي ومؤامرة تقسيم السودان
 ورود الحق ـ الإسلام اليوم
بقلم / فاروق جويدة
شيء غريب في عالمنا العربي يتعارض تمامًا مع كل قوانين الطبيعة في البشر والأحداث والحياة أن الزمن عادة لا يرجع للوراء، وأن أحداث التاريخ لا تتكرر، ولكن في العالم العربي ما أشبه الليلة بالبارحة!!
منذ عشرات السنين شهد العالم العربي أكبر مؤامرات التقسيم في التاريخ الحديث في اتفاقية سايكس بيكو، والتي قسمت ما بقي من الإمبراطورية العثمانية الغاربة بين إنجلترا وفرنسا، فكانت بداية مأساة الشعب الفلسطينيوقيام الدولة العبرية وتقسيم العالم العربي بكل كياناته الضخمة إلى دويلات صغيرة تناثرت هنا وهناك، وحملت كل أمراض التشرذم السياسي والثقافي والعرقي.
منذ سنوات قليلة وضعت الحرب أوزارها في جنوب السودان وتم توقيع اتفاقية نيفاشا في عام 2005م في كينيا بين الجيش الشعبي في الجنوب والحكومة السودانية، كان من أهم وأخطر ما جاء في هذه الاتفاقية إجراء استفتاء شامل في جنوب السودان في 9 يناير 2011م؛ لكي يجيب عن هذا السؤال هل يبقى السودان وطنـًا موحدًا أم يعلن استقلال الجنوب في دولة مستقلة؟
في اتفاقية سايكس بيكو تم توزيع العالم العربي لتعلن فرنسا الانتداب على سوريا ولبنان وتعلن إنجلترا الانتداب على فلسطين والعراق، ولم يخل الأمر من إضافة مناطق من شمال سوريا خاصة لواء الإسكندرونة إلى تركيا، أو تسليم فلسطين لليهود بعد ذلك من خلال وعد بلفور.
كان التقسيم دائمًا هدفـًا استعماريًّا في العالم العربي، وبقي حتى الآن أخطر أسباب القلق وعدم الاستقرار في هذه المنطقة وكان السبب الرئيسي في ذلك كله ثروتها من البترول؛ ولهذا سعى الاستعمار دائمًا إلى تفتيت وتقسيم العالم العربي؛ لأن ذلك هو الضمان الوحيد حتى لا يتحول العرب إلى قوة قادرة على مواجهة التحديات.
جاء الدور الآن على السودان حيث تخرج الآن من الجنوب كل يوم أخبار جديدة، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية وضعت قضية الجنوب ضمن أولوياتها الأولى، وربما سبقت أحداث الجنوب ما يجري في فلسطين حول مفاوضات السلام.
مؤشرات كثيرة تؤكد اهتمام أمريكا بالشأن السوداني. تصريحات المسئولين هناك ابتداء بالرئيس أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون مرورًا بـ"جون كيري" السيناتور الشهير والمرشح السابق في مواكب الرئاسة الأمريكية.. إنَّ أمريكا تستخدم كل أساليب الإغراء مع الرئيس عمر البشير, وسوف ترفع العقوبات عن السودان وسوف تتجاهل حكم المحكمة الجنائية، وسوف تقدم دعمًا ماليًّا للسودان، وسوف تحذف اسم السودان من قائمة الدول المشجعة للإرهاب.. إغراءات كثيرة قدمتها واشنطن لحكومة الشمال؛ حتى يتم الاستفتاء وتعلن أمريكا قيام دولة الجنوب المستقلة.
على جانب آخر، فإنَّ الأمر لم يخل من التهديد الواضح الصريح.. هناك مزيد من العقوبات إذا رفضت حكومة السودان إجراء الاستفتاء في موعده، بل إن آخر قرار أصدرته الإدارة الأمريكية هو تجديد العقوبات على السودان.. لا شك أن لدى جنوب السودان الآن إحساسًا بأن الدولة العظمى بكل نفوذها وقوتها تقف وراء استقلال الجنوب.. على امتداد السنوات الماضية قدمت أمريكا صفقات سرية من الأسلحة وقدمت دعمًا لحكومة الجنوب تجاوز 6 مليارات دولار والإدارة الأمريكية لا تفعل ذلك حبًّا في سكان الجنوب، ولكن لأن هناك قوة أخرى تقف بالمرصاد في جنوب السودان وهي الصين، حيث تسيطر على جزء كبير من موارد البترول، وتشارك في عدد كبير من مشروعات الطرق والمياه والمنشآت الإنتاجية.
إنَّ المعركة الآن على دولة الجنوب تدور بين أطراف كثيرة.. أول هذه الأطراف الولايات المتحدة الأمريكية وهي تضع عينها على البترول والخامات، ودولة جديدة في قلب القارة السوداء تدور حولها مجموعة من الدول بينها حسابات وخلافات كثيرة.. نحن أمام إثيوبيا وكينيا وأوغندا ووسط إفريقيا.. ولسنا بعيدين عن الصومال وجيبوتي وإريتريا والقرن الإفريقي.
وعلى مقربة منا تدور المعارك في اليمن بين القاعدة والجيش اليمني، وعلى الوجه الآخر ما تشهده الصومال من حرب أهلية.. هذه الأحداث الدامية تهم أمريكا بدرجة كبيرة؛ أولاً: لاقترابها الشديد من مناطق البترول في الخليج العربي. ثانيًا: لأن هذه المناطق تواجه صراعات دينية وعرقية يمكن أن تشتعل بسببها منطقة الخليج.
وبجانب هذا، فإنَّ إيران بقوتها الصاعدة وأحلامها التوسعية تشاهد ما يجري من بعيد، خاصة أنها حتى وقت قريب كانت تقف في شمال السودان، ولن يكون غريبًا أن تعود إلى مواقعها في أية لحظة.
كل هذه الأحداث لا يمكن أن تكون بعيدة عن إسرائيل التي أكدت وجودها في قلب القارة السوداء منذ سنوات بعيدة؛ ولهذا فإن أهداف أمريكا تصب في النهاية لمصلحة إسرائيل وحتى تضمن لها القوة والحماية في نفس الوقت.
لم تنس دول الخليج العربي أن تشارك في عرس الجنوب وهو يمهد لاستقلاله فدفعت ببعض أموالها في زراعة الأراضي وإقامة الطرق وبعض المشروعات المشتركة، ولكن الشيء المؤكد أن العرب غائبون فيما يحدث في الجنوب.
بدأت دولة الجنوب ترتيب أوضاعها وأعلنت أنها ستكون دولة علمانية تؤمن بتعدد الأديان، وستكون اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية للدولة وليست العربية رغم وجود قبائل عربية، وسوف يكون النشيد الوطني باللغة الإنجليزية، وهو يتردد الآن في أرجاء جوبا العاصمة.
على جانب آخر بدأت وفود أهل الجنوب الذين يعيشون في الشمال تعود إلى الجنوب، وبدأ الخوف على أهل الشمال الذين يعيشون في مراعي ومزارع الجنوب، كل هذه المؤشرات تحمل صورة المستقبل الذي بقي عليه وقت قصير لا يتجاوز 70 يومًا تفصل بيننا وبين 9 يناير القادم.
هناك تصريحات كثيرة صدرت من الشمال تتحدث عن السودان الموحد، وخرجت المعارضة السودانية تندفع نحو الجنوب وتجمع ما تبقى من شتات النخبة السودانية الحريصة على وحدة الوطن الواحد.. ولم يخل الأمر من تصريحات للزعامات القديمة الصادق المهدي والميرغني في محالة لإنقاذ السودان من كارثة التقسيم.. على الجانب المصري كانت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية أحمد أبو الغيط والوزير عمر سليمان في محاولة أخيرة لتقريب وجهات النظر، وشهدت أديس أبابا أكثر من اجتماع وأكثر من زيارة، ولكن كل شيء يشير ويؤكد أن التقسيم قادم.
هناك مخاطر كثيرة تهدد مصالح مصر في جنوب السودان.. لأول مرة في التاريخ القديم والحديث تنفصل مصر عن منابع نيلها جغرافيًّا وسياسيًّا؛ لأن السودان لم يكن في يوم من الأيام أرضًا وسكانـًا ودورًا بعيدًا عن مصر حتى في حالات ساءت فيها العلاقات.. كان السودان الموحد يشعرنا دائمًا أن النيل بين أيدينا وليس بعيدًا عنا.. ومع قيام دولة في الجنوب هي الأقرب إلى دول حوض النيل جغرافيًّا وسكانيًّا وثقافيًّا وعرقيًّا يمكن أن نقول: إن النيل لم يعد كما كان، وأن منابعه لم تعد قريبة منا كما كانت في ظل سودان موحد.
كان لدينا دائمًا إحساس بأن السودان هو العمق الذي يحمي ظهر مصر، ومع تقسيم هذا العمق يمكن أن تشهد المنطقة أحداثـًا أخرى وتوازنات أخرى..
وإذا كان شمال السودان سوف يجد شيئًا من الاستقرار في ظل مصر، فإن الجنوب يمكن أن يكون مطمعًا لقوى أخرى حوله، وربما ترك ذلك آثارًا بعيدة على دول الشمال مصر والسودان.. إن حوض النيل سوف ينقسم الآن أمام هذا الواقع الجغرافي والسكاني الجديد ما بين دول الشمال العربي مصر والسودان، وما بين دول الجنوب الإفريقي حيث دول حوض النيل ومنابعه.. لا أحد يعلم مستقبل الجنوب أمام خلافات كثيرة على الحدود بين الدولة الجديدة وجيرانها، ولا أحد يعلم أسلوب تأمين وحماية دولة بلا شواطئ تحيط بها ثقافات وديانات وأعراق مختلفة، خاصة أن المستقبل قد يحمل لها موارد كثيرة تغري الجيران وتشجع المغامرين..
إن الخوف من تقسيم السودان وإعلان قيام دولة الجنوب ليس خوفًا على الشمال وحده، ولكنه خوف مزدوج على جنوب قد لا يجد الحماية وشمال قد لا يجد الاستقرار، وإذا أضفنا لذلك كله أزمة دارفور ومستقبلها الغامض وما ينتظر كردفان، لأدركنا أن رياح التقسيم لن تتوقف عند جنوب السودان ولكنها ستطيح بأجزاء أخرى داخل هذا الكيان الضخم.
ما يحدث في الجنوب الآن قد يكون بداية مسلسل جديد لتقسيم يشبه ما حدث في عشرينيات القرن الماضي على يد انجلترا وفرنسا وهما يقتسمان معًا ما بقي من الدولة العثمانية.. ما زالت أحلام إسرائيل الكبرى لم تتحقق حتى الآن، وإن بقيت دستورًا في أدبيات الكيان الصهيوني.. إن تقسيم العالم العربي إلى دويلات صغيرة ما زال حلمًا في أجندة الإدارة الأمريكية.
كلنا يعلم أن تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات مستقلة كان وراء تصويت مجلس الشيوخ الأمريكي كشرط لانسحاب القوات الأمريكية من العراق.. إن رهان إسرائيل الآن هو تقسيم العالم العربي حتى تصبح إسرائيل هي الدولة الكبرى، وهذا يتطلب إقامة كيانات صغيرة في معظم الدول العربية.
منذ سنوات قليلة قدم باحث إسرائيلي يدعى عيديد يينون دراسة لوزارة الخارجية الإسرائيلية عن مستقبل تقسيم العالم العربي، مؤكدًا ضرورة استغلال الانقسامات العربية؛ لأنها تصب في مصلحة إسرائيل.. إن تفتيت العالم العربي يجب أن يكون هدفـًا إسرائيليًّا واضحًا وصريحًا، وهناك عوامل كثيرة تساعد على ذلك.
إنَّ دول المغرب العربي تعانى انقسامات كثيرة بين العرب والبربر، ولا توجد دولة عربية لا توجد فيها انقسامات دينية وعرقية وثقافية.. هناك أغلبية عربية سنية إسلامية، وأقليات إفريقية، وأقليات مسيحية، وهناك الأكراد في شمال العراق.. وفي دول الخليج أقليات شيعية نشطة في دول سنية.. وفي الأردن أغلبية فلسطينية، وفي اليمن حرب أهلية، وفي الصومال أيضًا.. وفي لبنان أقليات شيعية وسنية ومسيحية ودروز.
وبجانب هذا، فإن نمو تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي أدى إلى وجود تقسيمات أوسع، وهناك تقسيمات متوقعة في دول مثل اليمن والعراق والسودان والمغرب والجزائر.
ولم يكن غريبًا أن بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل وضع خريطة تقسيم العراق في عام 1952م، مستندًا إلى نبوءات وأساطير يهودية قديمة على أساس قيام ثلاثة كيانات منفصلة، ولعل هذا هو ما يجري الآن تحت راية الاحتلال الأمريكي ومؤامرات الدولة الصهيونية.
ولو أننا رصدنا ما حدث بين فتح وحماس في فلسطين أو ما يحدث بين الشيعة والسنة في العراق والحرب الأهلية في اليمن والصومال وما يجري في لبنان والحرب الأهلية في الجزائر لاكتشفنا أن مؤامرات التقسيم ما زالت تطارد الشعوب والحكومات العربية.. وقد شجع على ذلك ظهور النزعات العرقية والدينية وعودة العلاقات العربية إلى مربع القرابة والقبلية والدين والمذهب واللغة والأرض، بحيث عادت هذه العلاقات إلى سيرتها الأولى بعيدًا عن مبدأ عريق يسمى المواطنة.
ومع هذا، كان تراجع دور النخبة وسقوط منظومة القومية العربية وما شهده العالم العربي من مظاهر التشرذم السياسي والثقافي والوطني.
في ظل هذا زادت مساحات المد الديني وكان من الغريب أن يسقط النظام السياسي العلماني الوحيد في العالم العربي على يد القوات الأمريكية واحتلال العراق، وتقسيم هذا الكيان الضخم إلى كيانات دينية وعرقية على يد أكبر دولة كانت تتحدث عن شعارات حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية.. في ظل هذه التوجهات والمؤامرات يقدم السودان اليوم نموذجًا لعمليات التقسيم التي يمكن أن يشهدها العالم العربي، وفي كل دولة عربية يوجد لغم يشبه جنوب السودان يمكن أن ينفجر في أي وقت، ويبدو أمامنا العالم العربي ممزقًا مقسمًا بلا هوية.
لقد حاربت الشعوب العربية الاستعمار الغربي وحصلت على حريتها واستقلالها وقدمت ملايين الشهداء، ولكن الاستعمار وقبل أن يرحل ترك للشعوب العربية ما يكفي من أسباب الصراع بينها.. ولهذا لم يكن غريبًا أن تدور الحرب في السودان بين أبناء الشعب الواحد عشرين عامًا وينتهي الأمر بالانفصال.. وما حدث في السودان يدور الآن في اليمن منذ سنوات.. وفي فلسطين تتسع دائرة الصراع بين فتح وحماس، وفي الجزائر دارت حرب أهلية سقط فيها آلاف القتلى، وفي لبنان ضيعت الحرب الأهلية أكثر من 16 عامًا من عمر الشعب اللبناني، وما زال يدفع ثمنها حتى الآن.
إنَّ المأساة الحقيقية أن انفصال الجنوب في السودان لن يكون آخر كوارث هذه الأمة، ولكن هناك دولاً أخرى تنتظر دورها في الانفصال والتقسيم وظهور كيانات جديدة، وللأسف الشديد إن بيننا من يسعى لذلك ومن يخدم مخططات مشبوهة تسعى إلى تمزيق هذه الأمة، والشعوب في النهاية هي التي تدفع الثمن.
إن أغرب ما في هذا المشهد الدامي هو الصمت العربي عن كل ما يجري في السودان الآن، رغم أن هذا الذي نراه مجرد مشهد في رواية طويلة تنتظر هذه الأمة، وهي - للأسف الشديد - تحمل الكثير من الأحداث والمخاطر.

ساعدنا فى نشر هذا الموضوع:

0 التعليقات على هذه المقالة شاركهم برأيك

اكتب تعليقك ورأيك

اشترك ليصلك كل جديدنا...
تابع خلاصة المدونة
بعد الإشتراك :ستصلك رسالة على بريدك الإلكتروني يرجي الضغط على رابط التفعيل فيها ليتم إدراجه في الخدمة الإخبارية , ان لم تصلك الرسالة على صندوق البريد الوارد حاول ايجادها في جنك ميل.!
Subscribe via RSS Feed
إعلانات مواقع أخرى
Template By SpicyTrickS.comSpicytricks.comspicytricks.com
للتبادل الإعلانىللتبادل الإعلانىللتبادل الإعلانى
الأكثر مشاهدة
أحدث موضوع
المدونة على الفيس بوك
أقسام مهمة
بحث
Categories
فيديو الأسبوع
أحدث التعليقات
أحدث المقالات